أن يقال إن الإسلام في أزمة يستدعي لدى العديد من المسلمين ردود فعل دفاعية، تنحدر في أوساط أعداد منهم إلى الرفض الصارم والشتائم. طرح المسألة ليس حقداً على الإسلام ولا محاولة لتضليل المسلمين وإبعادهم عن دينهم، بل احترام لهم وربما مساهمة في دعوتهم إلى تقديم إجابات قد تحقق فائدة فيما يتعدى السياق الإسلامي.
الإسلام المعاصر يعيش أزمات مركبة، قليلها في أوجهه المعاشة، كثيرها في طروحاته الفكرية. إحدى أبرز هذه الأزمات بلوغ التشذيب والاقتصار في أصول المعرفة المعتمدة في الفكر الإسلامي المعاصر إلى ما يمنع التفاعل والانتاج، ويحصر الرد على أي تحدي بالعنف اللفظي، بل يؤسس لما يزيد عنه.
قد يبدو الحديث عن “أصول المعرفة”، الإپيستمولوجيا، للوهلة الأولى من باب الترف الفكري النخبوي، أو السجال الثقافي والذي من الأصح أن يبقى في الدوائر الجامعية أو المجلات العلمية المحكّمة. وربما كان الأمر كذلك في معظم التاريخ بما في ذلك القرن الماضي.
فالتحولات الخطيرة في أصول المعرفة كانت تمر دون ضوضاء. عندما تحقق الانتقال قرابة العقدين من انتهاء القرن العشرين، من نظرية التحديث، والتي تفترض تدرجاً خطياً أو ما يشابه لتاريخ المجتمعات المختلفة، إلى نظرية ما بعد الحداثة ثم التفكيك، والتي تُسائل أسس النظرية السابقة وليس مقوماتها وحسب، فإن ما جرى تشريحه لم يكن آليات التطور وأساليبه، بل الافتراض بأن التطور قاعدة تلقائية وإن مساراته تتحاكى إن لم تتماهى. كان لهذا التحول أثر على السياسة والمجتمع دون شك، ولكنه بقي خفياً.
وهذا التحول المستجد، الفكري الجامعي، جاء ليستعيد جدلاً من عمر البشرية، ساهم فيه المتكلمون المسلمون في صدر الإسلام وما تلاه مساهمات أساسية، بين من يقول إن “حقائق الأشياء ثابتة” وبين من يعتبر هذا القول وهماً تقتضيه حاجة الإنسان إلى البقاء، بين الإطلاق والنسبية، بين الثابت والمتحول.
الإشكالية اليوم هي أن الكوكب قد أقحم، شاء أم أبى، بحالة وحدة معرفية غير مسبوقة. فالعوائق التي كانت قائمة بالماضي لطلب العلم، الرحلة والكلفة والعناء وشحة الموارد وشروط الإجازة، كلها ارتفعت وزالت. وما كان حصيلة عمر بأكمله من المشقة بالجمع والتحصيل أصبح بمتناول اليد، بالمجّان، وفي الآن، وفي مطلق العلن.
على أن هذه التخمة المعرفية ليست مريحة على الإطلاق بالنسبة للغالبية. فالعوالم المعرفية السابقة لحالة المشاع المعرفي المتراكم القائمة اليوم، كانت متباعدة بأقدار. وهي وإن لم تكن مستقلة، فإن المسافة بينها، وانحصار صلب مادتها بمكتبات العلماء والجامعات، خفف من حدة الاحتكاك بينها، وأتاح لكل منها أن يبقى مطمئناً إلى رسوخ أسسه، الجلي منها ولا سيما النصوص، والخفي كذلك وعلى رأسها أصول المعرفة.
فالعالم المعرفي الإسلامي، وإن تعددت حالاته، ركن شكلياً بصيغته الفصيحة لدى الجمهور إلى اعتبار الإيمان أصلاً أولاً للمعرفة، يسنده النقل. وبالنقل يثبت التنزيل والرسالة، القرآن والسنة، “قال الله، قال رسول الله”. بل ساوى هذا العالم المعرفي بين الإيمان واليقين، فكان دور العقل أصلاً مسانداً آخر، شرحاً وتفسيراً للقرآن، ورواية ودراية للسنة، ومنهما فقهاً للعقيدة والشرع.
على أن هذه الصيغة الشكلية للعالم المعرفي الإسلامي لم تتفرد يوماً بالمجتمعات الإسلامية، بالإضافة إلى أن هذه المجتمعات متداخلة ومتراكبة مع مجتمعات دينية وعقائدية أخرى، بل كانت هذه الصيغة دوماً معزّزة بإضافات شكلية تتجاوز الإيمان والنقل والعقل كأصول معتبرة للمعرفة، تبتدئ بالإمامة والولاية والقطبية، وتمر بالإلهام والكشف والفتوحات، لتصل إلى الحدس والفأل والتنجيم وسائر أشكال الغيب الخاص.
وخارج التأطير الديني، فإن ما كان متاحاً للتوّ هو توسيع النقل، بأقدار مختلفة وفق المجتمعات، لكيلا يقتصر على الموروث الديني بل ليشمل المتوفر من سائر النتاج الإنساني، وصولاً إلى كامله في القرنين الماضيين، وتوسيع العقل بما يتجاوز تطويعه كأداة لمساندة الإيمان، لإتاحة المجال أمام المتابعات العقلية البحتة، من رياضيات وفلسفة، وأمام المتابعات العلمية الحسية القائمة على التجربة والمنهجية المحكمة والبرهان. وقد تمكنت المجتمعات المختلفة، نتيجة المشقة في المتابعة العلمية، من اعتماد منظومتين معرفتين متجاورتين مختلفتين. هما اختزالاً “للدين” و “العلم”، مع غلبة مفترضة لدى الأكثرية لأولاهما ومع افتراض التوافق بينهما.
وما ينطبق على الحالة الإسلامية ينطبق كذلك على الحالة المسيحية واليهودية. والتطور السابق للواقع الحالي في انكشاف العوالم المعرفية المختلفة على بعضها البعض في وحدة مقلقة لها جميعاً هو ما شهدته القرون القليلة الماضية من التصادم ضمن المجتمعات المختلفة، كل على حدة، بين الصيغة الشكلية المعرفية الدينية التي تحبذ الإيمان، وتلك التي تحبذ العقل والعلم الحسي.
التوجه يهودياً ومسيحياً توزّع بين “نصّيين” يغلبان الإيمان كأصل أول للمعرفة، ويخضعان له الأصول الأخرى، نقل وعقل بحت وعلم تجريبي وغيرها، وبين “عقليين” يخضعان النص للتأويل، العلمي والتاريخي، أو للنقد بذاته أو بمصدره، بما قد يحافظ على الإيمان أو قد يسقطه، وصولاً في بعض الحالات إلى أن ينفيا عن النص الديني صفة الأصل المعرفي.
العلاقة مع النص أكثر إلزاماً في السياق الإسلامي. فأسفار التوراة والإنجيل مصدرها الإلهام ولكن مؤلفيها من البشر، عرضة للسهو أو الخطأ، فلا انتفاء للإيمان بنقدها. أما القرآن، فمصدره التنزيل، وهو محفوظ بشهادته الذاتية. الحل الإسلامي، داخلياً قبل الوحدة المعرفية الكوكبية، كانت بالتصعيد والترهيب. فالترهيب يكون بوزع السائل وردعه عن السؤال بالتهديد بالعقاب في الدنيا والآخرة.
أما التصعيد، فبمضاعفة مكانة الإيمان والنقل كأصلين للمعرفة وتقرير إطلاق توافقهما مع العلم العقلي والتجريبي، بل قياس العلم بمقياسهما، واختيار آيات وإشارات من النص المقدّس للتأكيد لا على انسجامها مع العلم الحديث وحسب، بل على أسبقيتها في الكشف عن الحقيقة العلمية.
يتماثل هذا المجهود الإسلامي المعاصر مع نظيره في الأوساط المسيحية واليهودية، ابتداء من القرن التاسع عشر، حين كان التركيز على تاريخية مفترضة للرواية الكتابية المقدسة، وصولاً إلى سعي أكثر دقة اليوم بجعل الموضوع نظرية “التصميم الذكي” ومسألة الوجود من العدم.
والواقع أن انتقاء نص مقتضب، مع إخراجه من سياقه، وشرحه وموازنته تفاوتاً بين الحقيقة والمجاز، يفتح إمكانية الربط بين المادة القرآنية والتوجهات العلمية الطارئة وفق المقتضى. على أنه في القرآن، كما في الكتاب المقدس، كماً واسعاً من البيانات القطعية القابلة للمساءلة، فيما هي تكاد أن تترك، إسلامياً على أي حال، دون أي اعتبار في السعي إلى قياس الصدقية وتقرير الإعجاز المفترض.
فالقرآن يعتمد التاريخ الديني الوارد في الكتاب المقدس، وإن بما يغلب عليه طابع الإشارات المقتضبة. ولكن رغم قرنين كاملين من البحث والتحرّي، فإن حصيلة الرصد والجرد والتمحيص خارج النص الديني والتي حققها المجهود المسيحي واليهودي المحبذ لاعتبار النص أصلاً للمعرفة تكاد أن تكون معدومة جملة وتفصيلاً. ذلك أن التاريخ الوقائعي يخلو تماماً من أية إشارة في كل زمن ذاتي إلى أي من شخصيات الكتاب المقدس وحوادثه الدينية. أي أن السجل التاريخي مثلاً لا يرد فيه إشارة إلى إبراهيم في الزمن المتوقع لإبراهيم، ولا إلى يوسف والعبرانيين في مصر في زمن أي فرعون. والمسألة لا تتوقف عند الإصحاحات والفصول ذات الطابع التصوري، من جنة آدم إلى سفينة نوح، بل تتعداها إلى كامل التاريخ المفترض الوارد في الكتاب المقدس. لا إبراهيم ولا إسماعيل ولا إسحق ولا يعقوب ولا داود ولا سليمان، ولا معبد سليمان ولا مملكة إسرائيل ولا مملكة يهودا، ولا أي أثر في حفريات ولا أية إشارة في نصوص معاصرة، إلا بشقّ الأنفس بافتراض الخطأ والاستثناء في نتاج الحفريات لتقويل المتشابه والمبهم منها ما يقارب قدراً من التوافق مع الرواية الكتابية.
والطامة بالنسبة لمن سعى إلى تأكيد صدق أخبار النص هي أن غياب هذه الأخبار والشخصيات ليس نتيجة شحة في السجل التاريخي، بل تاريخ البلاد التي كان المفترض أن تسكنها وتحكمها وتديرها هذه الشخصيات متحقق حافل بالوجوه والحوادث، ولكن بما يفترق بالكامل عن الرواية الكتابية. رسائل تل العمارنة على سبيل المثال، والمبعوثة من حكام البلاد الفلسطينية إلى أسيادهم المصريين، تبدو هنا وكأنها تاريخ بديل بالكامل، ولكن موثّق بالحفريات والنقوش، عن التاريخ الذي يزعمه الكتاب المقدس دون أية قرينة أو دليل.
على مدى ما يقارب الألفيتين من الزمن، سادت السردية الكتابية على الرؤية الذاتية المسيحية واليهودية ثم الغربية للتاريخ والهوية والوجود. ورغم أن هذه السردية قد فقدت أساسها المعرفي بالعمق، فإن اعتبارات ذاتية ثقافية اجتماعية ودينية قد آثرت استمرارها. وهي في الغرب بالتالي قائمة معتمدة، إلى جوار الصيغة المعرفية الموازية، والتي تحبّذ العقل والعلم. هو جوار منتج حيناً متناكف أحياناً، تتعايش فيه الصيغتان لدى المرء الواحد في أحيان عديدة، وإن سعى المتمسكين بإطلاقية كل منهما إلى تصيّد أي انسداد في أفق الأخرى لإعلان سقوطها وغلبة ما يحبذون. الصيغتان لا تتساويان في مسارهما في القرنين الماضيين، أي أن الصيغة الدينية قد اضطرّت إلى التراجع والانكفاء إلى قدر ضئيل من ماضي سيادتها، فيما الصيغة العلمية ثابرت على التوسع، وإن بأقدار من التردد والمراجعة، دون أن تتمكن من تقديم أية إجابة قطعية للأسئلة الوجودية التي استشفها وطرحها الرواد الأوائل لسابقات هذه الصيغة قبل أكثر من ألفيتين.
أما في السياق الإسلامي، فإن الصيغة المعرفية الدينية تتحصن ضمنياً بالسردية الكتابية السائدة، وإن كانت تتهم الكتاب المقدس بالتحريف، بل في هذا الاتهام المزيد من التحصين للصيغة الدينية، إذ يمكن إقصاء ما قد يثبت من النقد بحق السردية الكتابية، إلى التحريف المزعوم. بل إن هذا التحصن يشكل دعماً، وإن هامشياً لهذه السردية، ويعفيها في السياق الإسلامي من أية مساءلة جدية في الجوهر. فالمفكر المسلم قد يطعن برواية صلب المسيح، ولكنه لا يشكك بتاريخية المسيح نفسه، فيما المجال مفتوح لمن شاء من المفكرين المسيحيين واليهود لإثارة المسائل والشبهات حول تاريخية رسول الإسلام.
وفي حين أنه ثمة جيل جديد من الباحثين المسلمين المعنيين بالديانات المقارنة، فإن منهجيتهم لا تخرج عن الضيق القائم في أصول المعرفة والتي يعيشها الإسلام المعاصر، إذ الميزان هو الإيمان الثابت، غير القابل للشبهات، والمدعوم بما يناسبه من النقل والعقل.
والمفارقة أن الإسلام المعاصر عند اقترابه من النص يبدو أكثر اصطفافاً مع “أهل الحديث” منه مع “أهل الرأي” من السلف. ولكنه عند تقريره الإطلاق التقديسي لهذا النص يبدو أقرب إلى “أهل الأهواء” منه إلى “أهل الحق” في رفض ما تفيده القراءة والإصرار على ما يرضاه الإيمان.
أزمة أصول المعرفة في الإسلام المعاصر هي أن الفكر الإسلامي احتفظ بأداتي التصعيد والترهيب لاعتراض أي تجاور مع منظومة فكرية “علمية” موازية لا يستوعبها، بل ضاعف من استعمال كل من هاتين الأداتين، فلجأ إلى التصعيد لاستيعاب قسري لبعض أوجه العقل البحت والعلم التجريبي بما يتوافق سجالياً مع الإيمان المقرر، ثم عمد إلى إسقاط أصول معرفة قائمة منذ صدر الإسلام، خشية الشطح في غيبيتها. والحصيلة هي عالم معرفي محدود بنصوصه ومسائله يكاد أن يفتقد الوسائل للاتساع أو التوسيع، وليس أمامه إزاء من يسائله إلا التكفير والشتيمة.
بالفوقية والزعم الجازم المتكلف، يكرر بعض المفكرين الإسلاميين أنه لا تعارض بين الدين والعلم، بل الدين أعلى وأسبق. بل هم هنا يقحمون الدين بما لا حاجة إلى توريطه به.
غالبهم أقل اندفاعاً عندما يكون التعارض بين النص الديني ومقومات غير قابلة للتطويع. كيف يفسّر القائمون على الإسلام المعاصر الانقطاع الكامل بين القصص القرآني والتاريخ الوقائعي؟ بالغضب والنهر ورفض السؤال والطعن بالسائل، وبالإصرار على أن النص يفيد اليقين. للمؤمن بطبيعة الحال أن يرضى بأي يقين يقدمّه النص. على أنه من التجني على هذا النص، وعلى عقل المؤمن، إلزامه بالتعارض مع تاريخ وقائعي محقّق ما كان عليه زعم استيعابه ابتداء.
للمفكرين المسلمين الملتزمين أن يخوضوا غمار التفسير الأوسع المقّر ضمناً أو صراحة بالضيق الناتج عن الحزمة الحالية من أصول المعرفة (أي الإيمان المسنود بالقدر المحدود المؤيد من النقل والعقل) وأن يستوعبوا أصولاً إضافية للمعرفة وإن ظنّية، أو أن يتحفظوا عن هذا المسعى، سيما وإن بعض من فعل تحت مسمى تدبير القرآن أو غيره من العناوين التي تزعم البقاء في إطار الصيغة المعرفية الدينية، حلّق وشطح وتشتت.
شأنهم أن يحققوا التوازن أو التواؤم أو التعايش بين الصيغة المعرفية القائمة على الدين والصيغة المعرفية الموازية الخارجة عن مرجعيته، أو أن يثابروا على الزعم التقريري المفتقد للبرهان، بل الناجم عن قصور يجلبه الهوى أو تقصير تقتضيه المصلحة، بأن صيغتهم الدينية تحيط بما لا تحيط به.
ولكن ما لا يسعهم تجاهله هو أن أي قدر من الشتائم والتهويل والوعيد يبقى عاجزاً عن منع غيرهم من المسلمين من الاستفادة من الواقع المعرفي المتحقق اليوم. وإذا استمر القصور في أصول المعرفة وفروعها وآفاقها في الإسلام المعاصر، فإن الخيار المتصاعد والموضوعي للعديد من المسلمين سوف يكون بتغليب الصيغة المعرفية البديلة وإن اعترضت عليها المؤسسة الدينية وإن استاء منها المفكرون الدينيون، سواء بالمحافظة على ازدواجية الصيغتين، الدينية المقيدة والعلمية الحرة، أو التخلي عن الصيغة الدينية.
المصدر: الحرة. نت