
أثارت تدوينةُ السيناتور الأميركي، جو ويلسون، نهاية الأسبوع المنقضي، ردات أفعال غاضبة في تونس، إذ أبدى انزعاجه من مواقف الرئيس قيس سعيّد، ودعا إلى فرض عقوبات على تونس، على خلفية ما يعتبرها مواقف سياسية للرئيس التونسي معادية للولايات المتحدة، فسعيّد، منحاز، بحسب تصوّره، إلى “محور الشر”، ايران والصين وروسيا، فضلاً عما يعتبره ولسون مواقف داخلية، تحتاج إلى اتخاذ مواقف مناهضة له، فالرئيس سعيد عمل في سنوات حكمه على تفكيك مؤسّسات الانتقال الديمقراطي وخنق الحياة الحزبية ومحاصرة المجتمع المدني، ومنها تحديداً ما قام به أنصار النظام تجاه الاتحاد العام التونسي للشغل. وليس هذا الموقف الأول الذي يصدر عن عضو مجلس الشيوخ الأميركي هذا (عضو بارز في لجنة الشؤون الخارجية)، فقد سبق أن نشر تدويناتٍ سابقة تفيد تقريباً المواقف نفسها، فهو في كل مرة يذكّر بأن الرئيس قيس سعيّد لم يعد يحظى بالشرعية التي كان من قبل يصرّ على إعلائها، وأن حكمه أضعف البلاد وهوى بها إلى مصافّ الدكتاتوريات، بعد أن كانت مفخرة الثورات الديمقراطية في العالم العربي.
والثابت أن لا أحد في تونس يريد لبلاده أن تكون تحت طائلة أي عقوبات، خصوصاً أنه قد صدرت عن أشخاصٍ لم تعرف لهم مواقف من قضايا أخرى لا تقل عدلاً ونبلاً عما في تونس، فالسيادة الوطنية ما زالت مطلب النخب السياسية التونسية من يمينها الى يسارها، وهي مطلب جامع تتمسّك به الشعوب الحرّة التي لا ترضى تدخّلاً في شؤونها الداخلية، وأن تكون تحت إملاء مواقف سياسية أو ثقافية تفرض عليها. لقد دافعت الشعوب عن سيادتها، وخاضت من أجل ذلك حروباً. ولكن علينا، في الوقت نفسه، أيضاً أن نستحضر أن هذا المعنى الذي يمنح للسيادة الوطنية تطوّر في مجرى التاريخ القريب، خصوصاً بعد أن حازت جل البلدان استقلالها، إذ لم يعد المعنى التقليدي للسيادة يعني وضع حد للهيمنة الاستعمارية المباشرة التي بمقتضاها تصادر دولٌ إحلال سيادة الدولة التي تحتلها، وتغدو نائبة عنها ممثلة إرادتها المسلوبة.
ليس من المصادفة أن يتضخم خطاب السيادة الوطنية في الأنظمة التسلطية التي تعفي نفسها من مسؤولية تردّي أوضاعها
غير أن استقلال جل البلدان، كما أقرّته الأمم المتحدة لم ينج من أشكال التبعية السياسية التي أضعفته، وقد تعمق هذا الأمر خلال الحرب الباردة (ستينيات القرن الفارط وسبعينياته)، قبل أن ينهار جدار برلين في أواخر الثمانينيات، مفتتحاً حصر التحوّلات السياسة الكبرى على المستوى الدولي التي ستسمّى لاحقاً العولمة، وما تبعها من انهيار حدودٍ عديدة كانت تسيج الدول، ومنها حدود السيادة الوطنية، فالتشابك المتنامي للاقتصاديات والفضاء الرقمي المعولم… إلخ خفّض من تلك الطموحات السيادوية، وجعلتها أكثر تواضعاً، من دون أن يعني ذلك تنازلاً عن السيادة. ولكن ضمن منظور مختلف، إذ لا يمكن فصل السيادة الوطنية عن الديمقراطية، باعتبار الأخيرة الشكل المتقدّم من سيادة الشعب، فلا يمكن أن نتصوّر “وطناً” له سيادة من دون أن يكون قد منح شعبه سيادة، وإلا تحوّلت هذه السيادة قوقعة فارغة، لا يملؤها سوى ضجيج الأنظمة والبروباغندا التي تدّعي أنها تنوب في السيادة بالذات عن شعبها، وهي، في الحقيقة، تطمسه في جبالٍ من التخوين التي تلقي بجزء كبير من الشعب في منافي “اللاوطنية”.
وليس مصادفةً أن يختفي في الأنظمة الديمقراطية خطاب السيادة الوطنية التي لا تحتاج إلى إثارة كل هذا اللغط اللفظي بشأنها، بل تمارسه فعلاً وواقعاً بتعبيرات أخرى، لعل أهمها الاستقلال الاقتصادي وإطلاق مختلف أشكال الإبداع التقني والعلمي والأدبي، فللسيادة الوطنية تعبيراتٌ مستجدّة، على غرار السيادات، الغذائية والرقمية والعلمية، وهي لا تُقاس إلا بمؤشّرات واضحة، تجلسها براءات الاختراع والاكتشافات والمراتب الأولى في التصنيفات الدولية، مع الأخذ بالاعتبار تشابك كل هذه المعطيات وعولمتها. فليس من المصادفة أن يتضخم خطاب السيادة الوطنية في الأنظمة التسلطية التي تعفي نفسها من مسؤولية تردّي أوضاعها من خلال افتعال معارك تحرّر وطني، لا جبهات لها سوى مواطنيها ومعارضيها.
ليست تونس على سلم أولويات القرار الأميركي، خصوصاً أنها تؤدّي الدور المطلوب منها
ومع ذلك، لننتبه إلى أن جو ولسون كمن يغرّد خارج السرب، فالولايات المتحدة، وتحديداً موقف البيت الأبيض، الذي ما زال ينظر بعين الرضا تجاه سياسة الرئيس سعيّد على خلاف ما يشاع. لا تمثل تونس مركز اهتمام استراتيجي للولايات المتحدة المنشغلة بقضايا كبرى، لعل أهمها الحرب الأوكرانية والسلم في أوروبا، القارّة العجوز التي يعتقد ترامب أنها غدت عبئاً على بلاده، وتشيخ بسرعة محيّرة، ما يستدعي وضعها تحت رعايته. المسألة الثانية التي تؤرّق الرئيس الأميركي الحرب في غزّّة، ولم يفلح، مهما كان تأثيره على صنّاع الرأي في إسرائيل، ثني نتنياهو عن مواصلتها. والقضية التي تضاعف هواجسه تمدّد الصين، خصوصاً بسط جناحيها في أفريقيا، القارّة المتخمة بثرائها والمنهكة في الوقت نفسه بفقرها. ولعل اللقاء الذي جمع منذ أكثر من شهر تقريباً ترامب مع خمسِ قادة أفارقة في هذا السياق. وليست تونس، على خلاف كل أوهامنا ونرجسياتنا، ونحن مواطنوها، موضوعاً على سلم أولويات القرار الأميركي، خصوصاً أنها تؤدّي حالياً الدور المطلوب منها أميركياً وأوروبياً: استبعاد الإسلام السياسي، ووقف تيارات الهجرة غير الشرعية، ولعب دور شرطي الحدود وحارسها. أما التقارب مع الصين وروسيا وإيران ففي المناطق المسموح بها، وما زالت الخطوط الحمراء بعيدة، فضلاً عن ابتكار طرق جديدة للاحتواء لا تستوجب بالضرورة عقوباتٍ اقتصادية .
الوصفة الناجعة في دعم السيادة الوطنية هي الديمقراطية والرخاء والإبداع، خارج هذه العناوين الكبرى ستكون السيادة تسلطاً تبرّره حروب تحرّر وطني، تفتح جبهاتها المريرة والدامية على المواطنين، المعارضين خصوصاً.
المصدر: العربي الجديد