
عندما يُرسل أفيخاي أدرعي رسالة تحذير عن عزم إسرائيل قصف مدينة رفح، مثلاً، يسارع السكان إلى الانتقال إلى المواصي. ثم يُرسل رسالة تحذير ثانية إلى سكان المواصي بضرورة الانتقال إلى خانيونس، فيشد المواطنون الغزّيون الرحال إلى مكان جديد. وعلى هذا المنوال، يتدافع الفلسطينيون في القطاع، في كل يوم، على الانتقال من هنا إلى هناك، ثم من هناك إلى هنالك، ثم يعودون إلى هنا. وقد سُجّلت نحو عشر هجرات متتالية في نطاق قطاع غزّة الذي لا تتجاوز مساحته 364 كيلومتراً مربعاً. وهكذا صار الغزّيون تائهين ذاهلين لا غطاءَ يحمي ولا فراشَ يقي. قال أحدهم بحسرة تفطر القلوب إنه يمشي منذ ثلاث ساعات ولم يستطع أن يقطع غير كيلومتر واحد. لقد حلّت السنون منه المفاصل وأعياه التعب؛ فلا طعام يقوم بأودهم، ولا ماء يبلّل شفاهم المشقّقة. وفي هذه الأحوال، ليس من المستغرب أن تتعالى الأصوات الغاضبة لتقول: “كفى، ما عُدنا قادرين حتى على الصمود”. وهذا الموقف لا يعد نقصاً في وطنية الناس إطلاقًا، إنما هو تعبير عن الخيبة والألم والاعتراض على النتائج الكارثية لما جرى في غزّة.
التفاوض الحمساوي – الإسرائيلي غير المباشر يجري منذ فترة على تبادل الأسرى، وليس على وقف النار النهائي. وصارت عملية تبادل الأسرى مثل البيع في أسواق التجزئة: “هات وخوذ”. أرفع السعر في البداية ثم أهبط به إلى النصف في النهاية. وفي خضم هذه العملية الممتدة يتساقط مئات من الناس في كل يوم، وترتفع أعداد الشهداء والجرحى والأيتام والأرامل والمعوّقين. لماذا هذا “الاستلشاق” بالزمن ونوائبه وضحاياه؟ هل تتوقع حركة حماس تحقيق إنجازات سياسية من التفاوض البطيء؟ ليأخذوا الأسرى الإسرائيليين كلهم دفعة واحدة في نطاق اتفاقٍ لوقف النار تضمنه الولايات المتحدة والأمم المتحدة وأوروبا، فضلاً عن مصر وقطر.
لا انتصارات إطلاقًا في هذه الحقبة. وأقصى ما يمكن انتظاره تقليل الخسائر، والتفتيش عن ثغرة للخروج من الأشراك التي وقعت بها “حماس”، ودفع ثمنها الشعب الفلسطيني كله. أما “كلام النصر” فمن يسمعه في هذه الأيام؟ فالفلسطينيون في غزّة لا تلفزيونات لديهم ليشاهدوا المحللين المخبولين، ولا إنترنت لديهم ليتابعوا ما يقوله زعماؤهم “المحبوبون”، ولا صحافة تصل إلى أيديهم ليتتبعوا كم يسقط من جنود الاحتلال يوميّاً (كم يسقط منهم حقاً؟).
ما لم يدركه الفلسطينيون، ولم تدركه “حماس” وأخواتها، أن إسرائيل الجريحة صارت كالضبع المقروح وعادت إلى ما قبل الدولة
السؤال اللجوج الذي يتكرّر في كل مرحلة أو فترة هو: ما العمل؟ والجواب الشافي غير موجود عند أيّ واحدٍ منا، أو عند أي جماعة سياسية. ربما يتوهم بعضُنا أن تلافيف أدمغته (اقرأ: نخاعاته) تتضمّن الجواب القاطع والساطع والطالع من لب الثورة. والواقع أن ثمّة أجوبة كثيرة جدّاً، لكنها كلها غير ذات شأن، لأن الأجوبة الصحيحة لا تأتي هكذا دفعة واحدة، بل بالتراكم المتفاعل والاختبار المتدرّج. أما الأجوبة السارية في الأفواه والأشداق مثل: “لن نرضى إلا بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر” و “لن نتخلى عن السلاح والمقاومة” فهي ما عادت قادرة على صوغ مخرج للنجاة في هذه المرحلة، وصارت عاجزةً عن إنارة العقل بإرادة الحرية، وإثارة الجمار السياسية التي همدت منذ فترة وخمدت، وصارت بلا جاذبيّة وبلا فاعليّة، سيما أن اختبار الزمن أزاحها من التداول، فاللغة السياسية الساذجة التي كانت صالحة في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته صارت لا تصلح إطلاقًا لزماننا. والإكثار من الكلام عن المقاومة والشهداء والقتال والتحرير والمقدسات ما عاد يخترق القلوب بجلالة البلاغة وجمالياتها، خصوصاً بعد الأهوال المروّعة والأحوال المريعة والمرارات التي حلّت بأهل غزّة. وفي هذا الهول الذي يغمرنا جميعاً، ها هي إسرائيل ماضية في تدمير كل مكان، مأهولاً أَكان أم قليل الأهل.
والمجتمع الغربي الذي أصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو نفسه الذي سمح بالتطهير العرقي وطرد السكان الأصليين في فلسطين. وهذا المجتمع الذي دان العنصرية في روديسيا (زيمبابوي) وجنوب أفريقيا هو نفسه الذي سمح بقيام دولة عنصرية في فلسطين بعد احتلالها في 1948. ومع ذلك، لا قيمة للغة السياسية الفلسطينية حين تتوجّه إلى ذلك المجتمع الغربي لتدينه بما تسمّى “ازدواجية المعايير” عند السيد دونالد ترامب (الأمر الذي يصيبه بالخجل واحمرار الخدّين)، ولا تتورّع عن “تحميل نتنياهو مسؤولية المجازر في قطاع غزّة” (كأن نتنياهو سيرتعب من تحميله تلك المسؤولية وستصطك ركبتاه هلعاً). لقد أمضى دافيد بن غوريون عمره وهو ينكر أنه هجّر الفلسطينيين، وظلّ يزعم أن الفلسطينيين غادروا ديارهم بمحض إرادتهم، خوفًا أو بناء على استدعاء القادة العرب. أما حكومة نتنياهو فهي تتبنّى مشروع تهجير الفلسطينيين علناً، وبدعم أميركي مكشوف، ولا يوجد أي حرج لديهم في هذا الأمر على الإطلاق. فأي معايير مزدوجة تلك التي لا يكفّ قادة الفصائل الفلسطينية عن الكلام عليها كأنهم اكتشفوا الدولاب؟ وأي تحميلٍ للمسؤولية لمن لا ينكر مسؤوليته عن المجازر؟ ولعل من العبث الاستطراد في هذه المناقشة. ولكن من غير العبث القول إن ما لم يدركه الفلسطينيون، ولم تدركه “حماس” وأخواتها، أن إسرائيل الجريحة صارت كالضبع المقروح وعادت إلى ما قبل الدولة، أي إلى وضع القبيلة المنتقمة التي يشد أزرها جبّار يدعى الولايات المتحدة. لقد أبيدت غزّة، وجُبلت رمالها بدماء الشهداء وعظامهم، وما زال التفاوض يدور على إطلاق أسير وخمس جثث، أو خمسة أسرى وعشر جثث أو عشرة أسرى وبعض الجثث.
الفلسطينيون اليوم كالعالق في الفخ: عليه أولًا تخليص رجله من الفخ، ثم يحدد اتجاهه ويسير نحوه.
يتغيّر العالم كله ويتشكل من جديد، وحرب الرسوم الجمركية التي دشنها ترامب حقيقية، ستغير، على الأرجح، صورة العالم وتوازنات دُولِه. لقد انتهت اتفاقية برايتون وودز (22/7/1944) في عام 1971، وها هي اتفاقات التجارة الحرّة تنهار بالتدريج في سنة 2025، وعلى كل منطقة تجارية أن تتولى حماية مصالحها ولو بالسلاح إذا لزم الأمر. ومن غير الممكن أن نتخيّل على أي هيئة ستستقر صورة هذا العالم. لكن، على الراجح، أن العالم سيمرّ بمرحلة من الفوضى، وسيكون عالماً بلا قواعد أو قوانين أو أصول أو تقاليد، وستطغى عليه فكرة التنافس والأرباح والصفقات، والزعامة ستكون للأقوى. أما الضعفاء فسيطأطئون رؤوسهم ويسيرون كالقطيع وراء كرازهم التيس النطّاح. ولا بد أن المشرق العربي يخضع اليوم لتغيير جيو – سياسي هائل، وعاصف في تقلباته. وقد أُنزلت الصورة القديمة لذلك المشرق عن الحوائط، ويجري حالياً تحطيم إطارها الخشبي وإحراقه. ثمّة عالم عربي جديد ينبثق الآن بالتدريج، ولن نتمكّن من جلاء صورته قريباً؛ فالمنطقة العربية تتمخض وتلد، ومن غير الواضح هل سيكون المولود مشوّهاً أو طبيعيّاً. غير أن من الواضح تماماً أن المشرق العربي الجديد سيكون بلا حيل، ولن يمتلك حبلاً للنجاة. وسيفقد دوله التاريخية مثل مصر وسورية والعراق؛ وهذه الدول ستنخرها الرثاثة والضعف والركود والتفتت الإثني والطائفي والإفلاس والهوان، كل بمقدار. أما إيران فستنحسر إلى داخل نطاقها القومي من دون قوة نووية ومن دون أذرع أمن تحيط بها، وسيتغير نظامها السياسي عاجلاً أم آجلاً. والملك الوحيد في المشرق هو إسرائيل، أما ملك الملوك فهو أميركا. أما تركيا فهي جار “طيب” لإسرائيل. أما إذا أصبحت جاراً مزعجاً، فستُرغم على الانضواء في نطاق السياسة الأميركية – الإسرائيلية كي يستمر زعيمها في الأكل من معجنهما.
كانت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023) نقطة تحول هائلة في المشرق العربي. لكن الولايات المتحدة وإسرائيل (وتركيا معهما) هما اللتان غيّرتا صورة المشرق العربي فعلياً لمصلحتهما. وفي معمعان هذه الفوضى العارمة، نتطلع إلى لغة سياسية جديدة لأن كل شيء “تشقلب” وتغيّر، وما عادت لغة الماضي تنفع. والأسئلة هنا كثيرة، منها على سبيل المثال: ما هي أهدافنا الممكنة في هذه المرحلة؟ كيف نستطيع الوصول إليها؟ ما هي المؤسّسات السياسية والنضالية الملائمة لتحقيقها؟ ما هي الوسائل الكفاحية التي من شأنها أن تمنحنا القوة لتحقيقها؟ ما هو مفهوم المقاومة الآن؟ هل المقاومة المسلحة، أم المقاومة الشعبية، أم المقاومة المدنية، أم المقاومة الدبلوماسية؟ وهل من الممكن مزج مقادير من ذلك كله في مجرى واحد؟ ومن سيقود المرحلة المقبلة سياسيًا ونضاليًا؟
المهمة العاجلة الآن وقف الحرب التي كان في الإمكان وقفها ربما منذ مايو/ أيار 2024
الفلسطينيون اليوم كالعالق في الفخ: عليه أولًا تخليص رجله من الفخ، ثم يحدد اتجاهه ويسير نحوه. أو كالعالق في دوامة البحر: عليه أن يخرُج أولاً من “باروم” الدوامة، ثم يسبح نحو الشاطئ. وبعبارة أخرى، المهم الآن وقف النار في غزّة، ووقف تجريف المخيّمات في الضفة الغربية بأي ثمن، ولا شيء غير ذلك. ثم، في يوم من الأيام المقبلة، يُعاد صوغ المفهوم الجديد للمقاومة استناداً إلى واقع الحال وإلى خبرة السنين. أَليسَ من اللافت أن “عرين الأسود” و”كتائب جنين وطولكرم وجبع” اختفت تماماً من مخيمات الضفة الغربية، ونكاد لا نسمع عنها أي خبر أو أثر. لقد ظهرت هذه المجموعات المحلية في سنة 2021 تقريباً، ولم تكد 2022 تنتهي حتى كان معظم قادة هذه المجموعات قد قضوا اغتيالاً. ولعل السبب كامن في الاستعراضات العلنية، وإدارة الظهر لمفهوم السرّية، علاوة على غياب الخبرة، وعدم تقدير قدرة إسرائيل على التعقب.
المهمة العاجلة الآن وقف الحرب التي كان في الإمكان وقفها ربما منذ مايو/ أيار 2024. ولا يجوز، تحت أي اعتبار، إفناء الشعب. ليأخذوا الأسرى الإسرائيليين كلهم مرّة واحدة إذا كانت في ذلك فرصة لوقف الحرب. ومنذ البداية، كان يجب إشراك منظمّة التحرير الفلسطينية في مفاوضات إطلاق الأسرى. لماذا هيئة التفاوض مكوّنة من مصر وقطر من دون منظمّة التحرير؟ ومع ذلك، في الإمكان اليوم تفويض الأمر إلى منظمّة التحرير على غرار ما فعله حزب الله في لبنان الذي أوكل جميع أمور التفاوض وترتيبات ما بعد التفاوض إلى الدولة اللبنانية. هنا، في هذه الأيام العصيبة، حذارِ من اللؤم السياسي والمكابرات السياسية والعناد السياسي والغباء السياسي معاً.
المصدر: العربي الجديد