في الردّة الأسدية الإيرانية

عبد الجبار عكيدي

ربّما لم يكن أكثر السوريين تفاؤلاً يميل إلى الاعتقاد أن السلطة الأسدية ستُطوى صفحتها مع انطواء الأشهر الأولى من تحرير سورية، فالحقبة الأسدية التي امتدّت أكثر من نصف قرن لم تتح لآل الأسد ممارسة الحكم فحسب، بل أتاحت لهم امتلاك البلاد بكلّ ما تعنيه لفظة (المُلك) من معانٍ، لذلك من غير المُستغرب ألّا يُذعِن المالك الأسدي بانتزاع ملكه ممّن كانوا “عبيداً” قبل مارس/ آذار 2011، ثمّ تحوّلوا “إرهابيين”. لعلّ المسألة تبدو أكثر تعقيداً حين لا تكون المعركة مجرّد دفاع عن المُلك فحسب، بل المعركة ليست بعيدةً من صراع إقليمي يعتمد على استثمار ما هو محلّي، وتغدو المشكلة أكثر فداحةً حين يصبح المناخ العام مزوّداً بوسائل الاشتعال كلّها، ومُفخّخاً بشتّى أشكال القنابل الموقوتة، التي تُنذر بالانفجار في كلّ لحظة.
ما شهدته مدن الساحل السوري وبلداتها وقراها، يوم 6 مارس/ آذار الجاري، لم يكن مجرّد مواجهة طارئة أو عابرة نتيجة مصالحَ متضاربةٍ بين طرفَين أو نتيجة تجاوز طرف على آخر تجاوزاً آنياً أو عارضاً، بل كانت معركةً حقيقيةً انبثقت من خطّة سابقة وتحضير سابق، ووُضِعت لها أهدافٌ محدّدة، فكانت الهجمات منسّقة استهدفت مواقع عسكرية وأمنية، ما يؤكّد وجود تخطيط وتنظيم تجاوز العمليات الفردية والعشوائية السابقة. الأسلوب المتّبع في الهجمات التي شنّتها فلول النظام من حيث التنسيق بين مختلف المحاور والانسحاب إلى المناطق الجبلية بعد التنفيذ، يعكس تكتيكات حرب عصابات مدروسة يقودها ضبّاط كبار في جيش النظام السابق وأجهزة استخباراته، يمتلكون خبرةً عسكريةً وأمنية كبيرة، كما أن الكمائن والغارات المتزامنة في أكثر من موقع تشير إلى أنهم يمتلكون معلومات استخبارية مسبقة عن تحرّكات القوّات الأمنية، وهذا ما يؤكّد أيضاً وجود جهات داخلية وخارجية تقدّم لهم الدعم اللوجستي والاستخباري.

يرى الضبّاط التنفيذيون في دولة الأسد أنفسهم الخاسر الأكبر من زوال الأسد، ومن ثم هم المعنيون بالتحرّك لاسترداد “المُلك المُنتزَع

لعلّ تصدّر العميد الركن، غياث دلّا، قائد اللواء 40 في الفرقة الرابعة (ضابط معروف بارتكابه جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الشعب السوري)، واجهةَ الأحداث وتبنّيه قيادة فلول نظام الأسد، يؤكّد المقولة الراسخة التي تحيل على أن الذين هربوا من سورية هم رأس النظام وقيادة الصفّ الأول فحسب، أمّا الذين كانوا بمثابة الإطار التنفيذي لآلة الحرب الأسدية من ضبّاط الصفّين، الثاني والثالث، فمجملهم ما زالوا موجودين بكامل سلاحهم وعدّتهم، التي لم تكن محطّ تعقّب وتنظيف من القيادة الجديدة في البلاد. ولعلّ هؤلاء الضبّاط التنفيذيين في دولة الأسد يرون في أنفسهم الخاسر الأكبر من زوال الأسد، ومن ثم هم المعنيون بالتحرّك لاسترداد “المُلك المُنتزَع”، خاصّة أن هذا الشعور بالخسران الذي استبدّ في نفوسهم وجد من يغذّيه، ويحوّله مبادرةً انتقامية، ربّما تتحوّل فرصةً لقلب الطاولة على الحكومة الجديدة، وربّما تفلح في وضع المجتمع الدولي تحت أمر واقع، يُعاد فيه التفكير في مستقبل سورية التي لا يمكن أن تكون “خالية من الأسدية”، وفقاً لهؤلاء.
لعلّ من الصحيح أن قوات الأمن العام ووزارة الدفاع استطاعت احتواء الهجوم الأكبر لفلول النظام، عشية 6 مارس، ولكنّ التداعيات العسكرية والأمنية لهذه المعركة لا يمكن أن تنتهي قريباً، لجملة من الأسباب. أهمها، أولاً، أن المعركة بين فلول النظام والقوات الرسمية للدولة السورية لا تأخذ شكل حرب المواجهة المكشوفة بين جيشَين متخاصمَين، بل هي حرب عصابات تستخدم فيها الكمائن والغارات وعمليات الكرّ والفرّ وقنّاصات ذات أجهزة رؤية ليلية.. هذه هي استراتيجية فلول النظام، الذين تلعب الجغرافيا دوراً أساسياً لمصلحتهم، فالاختباء في الجبال والتزوّد بالسلاح ليلاً، والتجوال في الزيّ المدني في المدن والبلدات نهاراً، بعد أن قاموا بالتسويات، يتيح لهم مساحةً كافيةً من الاستطلاع ومعرفة تموضعات الخصم ونقاط ضعفه وقوته، فكلّ مفترق طرق وجرف صخري في تلك المناطق يصلح لكمين، ولهذا ربّما يكون من الصعب على القوات الرسمية للدولة الإحاطة بكلّ ما يخطّط له العدو، إذ إن عنصر المباغتة في مواجهات كهذه له دور بالغ الأهمية.

تسترعي العوامل الخارجية التي تؤجّج الصراع في سورية الحذر، عبر مزيد من التحصين الداخلي للبلاد

ثانياً، يزيد وجود قوّات الفلول بين السكّان المدنيين من صعوبة تعقّبهم، بل يمكن أن يكون عائقاً أساسياً في استهدافهم، كما يتيح لهم في حالةٍ كهذه أن يتّهموا قوّات الأمن العام باستهداف المدنيين لتأليب الرأي العام والمجتمع الدولي. السبب الثالث، ولعلّه الأكثر أهمية، فهو الدور الخارجي المتمثّل بإيران المشهود لها بصناعة المليشيات، وتسعى إلى الحصول على موطئ قدم كانتوني طائفي في الساحل السوري، ولم تخفِ تبنّيها ودعمها الفلول، بل إن الجهة الإعلامية الوحيدة التي تواكب وتروّج الفلول هي وكالة مهر الإيرانية، التي تطلق مصطلح “جبهة المقاومة السورية” على فلول النظام، زاعمةً، في الوقت ذاته، أن إعادة سورية إلى عهدها الأسدي هدف لا بدّ من تحقيقه.
وفي آليات المقاومة والمواجهة، ثمّة مساران متلازمان لا ينبغي الفصل بينهما: عسكري أمني يعمل بمهنية واحتراف، بعيداً من شعور الفزعة والفوضى العارمة، والإسراع بهيكلة وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ونزع السلاح وإعادة الإدماج، لتحاشي التجاوزات والانتهاكات؛ ومسار سياسي يكون بمثابة ترجمة فعلية لخطاب القيادة الجديدة، ونعني المضي بعد الإعلان الدستوري في تشكيل حكومة شاملة تقوم على معايير الكفاءة والمهنية، بعيداً من أيّ ولاءات أيديولوجية، ومن ثمّ البدء بإنشاء كيان قضائي يتولّى مهمّة العدالة الانتقالية، باعتبارها المدخل الصحيح والوحيد والحصن المنيع لمفهوم السلم الأهلي.
قد تبدو مسألة العوامل الخارجية التي تسهم في تأجيج الصراع في سورية مهمّةً وتسترعي الحذر، ولكن الترجمة الحقيقية لهذا الحذر ينبغي أن تأتي عبر مزيد من التحصين الداخلي للبلاد، فالتصدّي للخطر الخارجي يبدأ بتقوية دعائم الداخل أولاً وليس العكس.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى