حين تكون المظلوميات ملاذ الضمائر اليابسة

حسن النيفي

في تفسير وتتبّع نشوء المظلوميات لدى الجماعات يشير علماء الاجتماع إلى تركيز أصحاب سرديات التظلُّم – سواء أكانوا جماعاتٍ  أم أفراداً – على الجانب الأكثر درامية من قصصهم موازاةً مع الابتعاد عن السياقات التاريخية والواقعية التي أفضت إلى تلك المظلوميات، ذلك أن المراد في هذه الحالة هو التأثير وإيجاد رأي عام ينتصر للقضية فقط، بعيداً عن معرفة السياقات والأسباب التي أنتجتها، طالما أن الهدف من بلورة المظلوميات هو استثمارها سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وبالطبع هذا لا يعني افتقاد المظلوميات المُتشكّلة إلى حيثياتها التاريخية والاجتماعية كما لا يعني غياب شروط تبلورها كالظلم والاضطهاد وجميع أشكال انتهاك الحقوق والإقصاء التي تطال الجماعات والأفراد، ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن الركون إلى كل ما تحيل إليه العناصر الدرامية الحاملة لتلك القصص، لأنها غالباً ما تعتمد على المبالغة والتضخيم الإعلامي والتجييش بغيةَ التأثير على الرأي العام.

تُعدّ الحالة السورية، وتحديداً الحقبة الأسدية الممتدّة إلى أكثر من نصف قرن، المناخ الأكثر نضجاً لبروز مظلوميات متعدّدة تتجاوز حدود الأفراد، لتطول جماعات بأكملها ( عرقية – دينية – طائفية )، ولعل مردّ ازدهارها وشيوعها أمران اثنان: يتجلى الأول بتوافر جميع أسباب الظلم والإقصاء والتعدّي على الحقوق والحريات، إلى درجة اختزال الدولة كاملةً بشخص الحاكم ومشيئته ومصالحه، مقابل حالة سحقٍ شديدة للمواطن الذي بات مصير حياته ومستقبله مرهوناً بمصلحة السلطة الحاكمة. ويتجسّد الأمر الثاني بفشل القوى المجتمعية في تحقيق عملية التغيير نتيجة إخفاقها في مواجهة التوحّش السلطوي المتمثّل بشتى وسائل القمع والتنكيل، بل والاستئصال لأي حركة اجتماعية تسعى إلى التحرّر من عبودية السلطة وتتطلع إلى حياة أفضل، الأمر الذي جعل من القضية السورية جرحاً نازفاً ومأساةً متجدّدة أفضت إلى إزهاق أرواح مئات الآلاف من المواطنين واعتقال وتغييب أمثالهم في العدد، وتهجير ونزوح الملايين، فضلاً عن حالة الخراب الفظيع الذي حلّ ببنية الدولة السورية.

سرعان ما تحوّل كثير من المثقفين بل ممن كانوا يتدافعون لتصدّر المشهد، ومن المتنطّعين لمسائل التنظير الوطني وضروب الديمقراطية والعلمانية إلى أبطال في عالم الفيسبوك ونجوم في بث مقاطع الفيديو التي لا تختلف في محتواها ومضامينها وأهدافها عن سعير التجييش والتعبئة العمياء

ولئن كان من الصحيح أن يوم ( 8 – 12 – 2024 ) كان لحظة حاسمة ومفصلية في تاريخ سوريا الحديث من جهة زوال السلطة الأسدية واندحارها عسكرياً نتيجة عملية ( ردع العدوان 27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول)، إلّا أن مشاعر النشوة التي هيمنت على نفوس معظم السوريين طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، كانت تخفي في تضاعيفها مزيداً من القلق والتوجّس، بل ربما المزيد من الشك في قدرة السوريين على تجاوز ( الإرث الأسدي) بكل تداعياته الأمنية والسياسية والاجتماعية، ربما لإيمانهم بأن عبور سوريا إلى ضفةٍ أكثر أمناً واستقراراً إنما هو مرهون بقدرتهم على التأسيس لعهد جديد يتيح لهم تداول السياسة وامتلاك شأنهم العام والمبادرة في صياغة حاضرهم ومستقبلهم انطلاقاً من المصالح الوطنية المشتركة للجماعات والأفراد. واقع الحال يؤكّد أنْ أكثر السوريين تفاؤلاً لم يكن يرقى به تفاؤله إلى درجة العبور الآمن من الحقول الأسدية المكتظة بالألغام نحو ضفاف أكثر أمناً، وبالفعل كان اليوم السادس من آذار الجاري لحظة مفصلية أخرى في تاريخ السوريين، كونها تجسّد تحدّياً آخر لا يقل أهمية عن التحديات المصيرية السابقة. ونعني بذلك الهجوم العسكري الذي بادرت به مجموعات مسلحة في مدن وبلدات وقرى الساحل السوري، مُستهدِفةً قوى وعناصر الأمن العام، إذ لم يكن هذا الهجوم ناتجاً عن حالةٍ عَرَضيةٍ أو نزاع آنيٍ أو نتيجة لسلوك طرف استفزّ الطرف الآخر، بل هي عملية انبثقت عن خطط سابقة وتقف وراءها جماعات أقل ما يقال عنها، إنها ترى في زوال السلطة الأسدية زوالاً لمصالحها ونفوذها، هذه الجماعات لا ينقصها السلاح والعتاد ولا تفتقر إلى التأطير، بل إن الصورة التي ظهرت بها تدلّ على أنها حاملة لمشروع ليس بالضرورة أن يكون ناجزاً وقابلاً للتحقق، ولكنه يمكن أن يكون مُعطّلاً وعائقاً لمشروع التغيير الوطني في سوريا. هذه الجماعات المسلّحة التي أُطلق عليها (فلول النظام) ظهرت تحت مسمّيات واضحة الدلالة والأهداف(جبهة المقاومة السورية – درع الساحل – المجلس الإسلامي العلوي…) كما حظيت بتغطية وإسناد إعلامي إيراني على مدار الساعة، عبر شبكة (مهر) الإعلامية الإيرانية، من جهتها لم تكن قوات الأمن العام التي تجسّد دور (الشرطة) التابعة للحكومة السورية الرسمية تمتلك القدرة الكافية للتصدّي لتلك الفلول، الأمر الذي جعلها تتكبّد خسائر في الأرواح نتيجة الكمائن والهجمات المباغتة التي تعرّضت لها، ما دفعها للاستعانة بقوات الجيش المؤلفة من فصائل عسكرية تدافعت نحو مدن وبلدات وقرى الساحل السوري، لمؤازرة قوات الأمن العام، وهي في أثناء قيامها بهذه المهمة ارتكبت أخطاء ومارست انتهاكات عديدة بحق مدنيين، وفي ظل غياب جهات إعلامية رسمية أو أخرى موثوقة تتقصّى حقيقة ما يجري وتبيّن للرأي العام دقائق الأمور، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي الفضاء الذي يستطلعه الجميع للوقوف على حقيقة ما يجري.

لا يتسع سياق هذه المقالة للحديث عن مسؤولية الأطراف التي قصّرت في كبح حالة الانفلات المسلّح في الساحل السوري، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن الدور المُنتظر ليكون فاعلاً وحاضراً في هكذا حالة هو الصوت الوطني المتمثّل بالفاعليات الثقافية والفكرية والسياسية وكذلك الرموز الاجتماعية، باعتبارها الأقدر على فهم ما يمكن تسميته بالاستعصاءات المُتوقعة في هذه المرحلة العصيبة، كما كان من المُنتَظر أن يكون صوت (النخب السورية) مُغايراً للسعير الإعلامي الذي تعج به السوشيال ميديا، ونعني بذلك التغاير، أن يطغى الصوت المطالب بالعدالة الانتقالية ومبدأ المحاكمات العادلة وتقصّي الحقائق كما هي على الأرض على الضخّ والتحشيد الأعمى والاصطفاف الطائفي، إلّا أن واقع الحال قد أظهر خلاف ذلك، إذ سرعان ما تحوّل كثير من المثقفين بل ممن كانوا يتدافعون لتصدّر المشهد، ومن المتنطّعين لمسائل التنظير الوطني وضروب الديمقراطية والعلمانية إلى أبطال في عالم الفيسبوك ونجوم في بث مقاطع الفيديو التي لا تختلف في محتواها ومضامينها وأهدافها عن سعير التجييش والتعبئة العمياء التي لا تؤدي سوى إلى المزيد من التمتّرس الطائفي.

لا شك – والحال كهذه – أننا أمام منعطف جديد يحاول كل طرف فيه تكوين رأي عام وحيازة شطر كبير من الأنصار والمؤيدين ليس بناءً على معايير الحق وعدالة القضية والمشروعية الأخلاقية التي تُبنى على المصداقية والدقة في تقصّي الأحداث وبالتالي بناء موقف عقلاني وصادق، بل بناءً على الضخّ الفيسبوكي وتحقيق نسبة هائلة من المشاركات واللايكات والمضي في اجتياح مساحات كبيرة وشاسعة ولو كانت سوداء مليئة بكل ما هو غث ومقرف، وبالتالي هل نحن أمام فاتحة عهد جديد لبناء المظلوميات كحلّ بديل عن فشلنا – نحن السوريين –  في القدرة على الحوار والتفاهم على قضايانا الحياتية والمصيرية؟

ما هو مؤسف بالفعل، بل ما هو باعث على الإحباط والخيبة تلك النزعة الإنسانوية التي تطفح على ألسنة ونشاط العديد ممّن تدّعي النخبوية وتعدّ نفسها أو يسوّق لها كثيرون على أنها شخصيات عامة، سواء أكانت شخصيات فنية أو سياسية أو ثقافية، ذلك أن تلك النزعة الإنسانوية التي تختزل المشكلة في الجانب الذي تختاره، بينما تخفي الجزء الآخر من المشكلة وراء جبنها ونفاقها، مُطلقةً لنفسها الحق في الحديث مطولاً عن حقوق الإنسان والتنديد بالانتهاكات والتجاوزات ووو، لدى طرف واحد وبالطريقة التي تستوجب إخراجاً محدّداً ليؤدي وظيفته الاستثمارية بالشكل المطلوب، بينما تنكمش ألسنتها وتغيب ضمائرها عن تلك الحقوق والانتهاكات والتجاوزات لدى الطرف الآخر، لعلنا بالفعل أمام تحوّل فظيع نتيجة شيوع ثقافة (الكيوت) لدى أبطال النخب المزعومة.

ما هو شديد التأكيد: إن الذي تردعه ولاءاته الطائفية والعرقية والإيديولوجية عن قول الحق ورواية الحقائق كما هي، لا ينبغي أن يجعل من نفسه وصيّاً على العدالة، ذلك أن تشويه الحقائق وتزييف الوقائع سواءٌ من خلال الضخ الإعلامي أو النشاط الفيسبوكي أو أي وسيلة أخرى، بغيةَ التأسيس لسرديات أو مظلوميات جديدة، إنما هو إهانة لأرواح الضحايا وتفريط بحقوقها قبل أي شيء آخر.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى