ما يحدث في سورية ليس قدراً لا مهرب منه

عمر قدور

ما حدث ليلة السابع من هذا الشهر لم يكن تمرّداً طائفياً عاماً في الساحل ضد المركز، لكن ما حدث يُعدّ الأخطر أمنياً منذ ثلاثة شهور؛ هي عمر السلطة الحالية. وزاد من منسوب الفزع لدى الخائفين قيامُ البعض بإنزال العلم السوري، ورفع راية الحدود الدرزية بدلاً منه على مبنى حكومي في السويداء، بالتزامن مع شيوع أخبار عن تنسيق البعض مع تل أبيب. وكانت قد سبقت ذلك بأيام قليلة تصريحات إسرائيلية تنص على دعم جرمانا التي شهدت إشكالاً أمنياً بين فصائلها المحلية وقوات الأمن العام، تم تطويقه سريعاً بلا معارك. وقبل ذلك كانت واضحة تصريحات نتنياهو بتحذير حكومة الشرع من نشر قواتها جنوب دمشق.
هي مجموعة حوادث لا يصحّ التهوين منها، ولا تضخيمها على نحو يعمي البصائر. إذ لا شك في أن وراء ما يحدث رسائل يجب الانتباه إليها وقراءتها جيداً من قبل السلطة، ومن قبل عموم السوريين. ومن ضمن القراءة عدم الجزم (على الأقل) بأن ما حدث محاولة انقلابية جادة على الحكم في دمشق، أو محاولة انفصال بالساحل عن سوريا، يواكبها انفصال السويداء ومناطق سيطرة قسد.

اليوم هناك سلطة جديدة في دمشق، ورثت فيما ورثت عن العهد البائد ضعفَه، وهذا واقع ينبغي الاعتراف به. المعيار ليست الشعبية بالمقارنة مع سلَفٍ فقد شعبيته لدى أقرب المقرّبين إليه، باستثناء شبيحته. المعيار نراه في حال الدولة السورية المنهارة، والواقعة تحت ضغوط متعددة ومتضاربة، بحيث يصعب على السلطة الجديدة إقامة التوازنات المطلوبة والضرورية إقليمياً أو دولياً.

انهارَ العهد البائد دولياً قبل سقوطه النهائي في دمشق، ولم يكن ذلك استجابة لتطلعات السوريين المعلن عنها بثورة صريحة، وإنما بسبب التوافق على إخراج إيران من سوريا، إلا أن القوى المتفقة على ذلك غير متوافقة بعدُ على طريقة ملء الفراغ الإيراني. طهران بدورها تحاول تجاوز صدمة خسارة حزب الله في لبنان، والنظام الإيراني لا يستطيع أمام شعبه الإقرار بالخسارة المطلقة في لبنان وسوريا.

إثارة الفوضى بمثابة ضرورة لنظام الملالي، فمن خلالها يوهم الداخل بأنه لم يخسر نهائياً، ويفاوض في الخارج على أنه لم يفقد أوراقه كافة. ولا شك في أن الساحة السورية هي المفضَّلة حالياً للإيراني، ولو كانت العين على لبنان، فطهران لا تحلم باسترجاع نفوذها السوري، واستخدامها ما تبقى من شبيحة الأسد لا يُعدّ تضحية منها بهم على غرار تضحيات الحزب التي لها قيمة أعلى.

ضمن هذا الهامش المحدود، قد لا ترى تل أبيب ضيراً في التحركات الإيرانية، ما دامت تساهم في إضعاف الجار الجديد، خصوصاً أن آفاق التسوية في غزة غير واضحة بعد، بما فيها ارتداداتها الإقليمية. ومن جهة ثانية، لا تمانع تل أبيب في أن تثير طهران المتاعب لأنقرة في سوريا، فإسرائيل لا تريد نفوذاً تركياً يرث النفوذ الإيراني فوق مناطق النفوذ السابقة في الشمال، وليست الآن في وارد التصدي له بينما هي منشغلة بالحرب على غزة.

التهويل وصل في الأيام الأخيرة إلى حد تداول خريطة سوريا ما بعد التقسيم، من دون تمعّن في الاحتمالات الراديكالية التي ينطوي عليها ذلك. فبدءاً من الشمال الشرقي، لا تشرح الخرائط كيف ستقبل أنقرة بإقامة دولة كردية مستقلة على حدودها، مع التذكير بأنها تصدّت بحزم لمحاولة إعلان استقلال إقليم كردستان العراق، وهو مستقلّ عملياً، ولا يصعب الجزم بأنها ستنظر إلى أي كيان كردي جنوبها كتحدٍّ وجودي.

ثم، لا تشرح فرضية التقسيم أسباب ودعائم نشوء وبقاء كيان علوي في الساحل، وحتى الكلام عن مظلة روسية لا يعني سوى أن يكون الكيان المزعوم قاعدة بحرية وجوية روسية، وإلى جوارها دويلة خدمات تُؤدَّى للقاعدتين. أما انسلاخ السويداء عن سوريا، وفق التصور ذاته، فلا يملك فرصاً الحياة أكثر من دولة الساحل المزعومة، وربطه بالكيان الكردي في الشمال أشبه بالنكتة. أما تل أبيب فأغلب الظن أنها لا تريد تحمّل العبء الاقتصادي لكيان تصطنعه، ولا يُستبعد أن يصبح عبئاً أمنياً عليها في المستقبل.

استبعاد التقسيم لا يُقصد به التهوين من شأن ما دونه، واليوم واحد من المخاطر التي لا تزال ماثلة أن يكون العهد الجديد قد ورث العهدَ البائد من النقطة التي انتهى عندها. لقد نالت السلطة الجديدة في البداية ترحيباً دولياً وإقليمياً واسعاً، وانتهى شهر العسل من دون أن تظهر آثار عملية له، فلا المساعدات الموعودة وصل منها ما يُحدِث فرقاً معيشياً، ولا تعليق بعض العقوبات كان كافياً كي يغامر بعض الدول اقتصادياً ومالياً في دعم الحكم. ومن الملاحظ أن الإجراءات التي اتخذتها السلطة مؤخراً لم تحظَ بأدنى اهتمام أو تشجيع خارجيين؛ هكذا كان حال مؤتمر الحوار الوطني، ثم تشكيل اللجنة المكلّفة بصياغة الإعلان الدستوري.

واحد من أسوأ الاحتمالات أن تبقى سوريا كما كانت قبل الثامن من كانون الأول/ديسمبر، بما في ذلك ألا تمضي قُدماً على طريق تغيير سياسي حقيقي وفعلي. ولئن لم يكن مطلوباً من السلطة قطع أشواط على طريق قيادة التغيير، فالمأمول هو وضعُ القدَم على الطريق، وإعلان توجّهات واضحة فيما يخص نواياها المستقبلية، أما القول إنها ليست مفوَّضة بمثل هذا الإعلان فلا يستقيم مع تصريحات لمسؤولي السلطة تُستشفّ منها نية البقاء طويلاً.

واليوم، مع التصدي لشبيحة العهد البائد المتمردين، لا يُستبعد أن ينطوي النصر على معطيات جديدة ليست في صالح المضي إلى الأمام. في طليعة ذلك أن يُقرأ الاصطفاف حول السلطة، من أجل التصدي للشبيحة، بوصفه تفويضاً شعبياً يغنيها عن نيل تفويض شعبي سياسي بالطرق السياسية الاعتيادية. ولا بأس بالتذكير هنا بأن الوطنية التي تُبنى على عصبية حربية معرَّضة لتنزلق بسهولة إلى الفاشية، بخلاف الوطنية التي تتكون في السياسة وعمادها المواطن.

أيضاً، قد يُضعف النصرُ العهدَ الجديد، في الوقت الذي يظهر فيه على السطح حزمه وقوته، فضلاً عن التأييد الشعبي. وقد رأى كثر تسجيلات فيديو موثّقة لانتهاكات قامت بها القوات المهاجمة؛ بعضها ضد الأسرى من المتمردين، وبعضها الآخر ضحاياه من المدنيين العزّل. ولا نريد التفصيل في هذا، فالأهم أنه من السهل أن تجد التسجيلات طريقها إلى الدول المعنية بسوريا، ما يجعل السلطة في موقع ضعيف في ميزان العلاقات الدولية؛ الضعف الذي سيرتدّ تالياً على البلد بأكمله، والغالبية الساحقة من مختلف السوريين لا تتمنى عواقبه.

ما يحدث في سوريا ليس قدَراً لا مهرب منه، رغم هشاشة الوضع الداخلي والضغوط الخارجية التي تستقوي بضعف الداخل ككل، فيما إذا بشّر النصر على المتمردين بتجاوز الأسباب الداخلية للتمرد. هناك غالبية عظمى تودّ هذا، فللسوريين تجربة مريرة سابقة مع لعب السلطة على تمايزاتهم، ومن السيء جداً أن يمثُل كتاب العهد المنصرم في الأذهان بين الحين والآخر، لكن حتى هذا يمكن (متى توفرت الإرادة) أن يكون أمثولة تحضر كي لا يُحتذى بها، لا على وجه الإجمال ولا بأصغر تفصيل.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى