تشهد العاصمة السورية دمشق، منذ اليوم التالي لزوال نظام الأسد، حراكاً سياسياً كثيفاً تجسّد بتواتر الوفود القادمة إلى دمشق، سواءٌ من جهات عربية أو إقليمية أو دولية، وهو حراك يأتي في سياقه الطبيعي نظراً للتحولات المهمة التي لم تشهدها سوريا منذ أربعة وخمسين عاماً.
إذ إن تلك التحوّلات بقدر ما كانت هدفاً كبيراً تطلع إليه السوريون بل ربما جسّد حلماً كان الجميع ينتظره بلهفة شديدة، إلّا أنّ التداعيات العامة لتلك التحولات لن تكون حبيسة الجغرافية السورية، بل ربما أتاحت لمعظم دول المنطقة، وفي مقدمتها الدول العربية أن تتطلع إلى بناء استراتيجيات جديدة انطلاقاً من الواقع السوري الجديد.
العودة إلى الفضاء العربي ضرورة لازمة
ربما كان من الطبيعي أن تكون مجمل اللقاءات التي تجريها السلطة الجديدة في دمشق مع الأطراف الزائرة يسودها طابع كسر الحواجز أو ربما جسّ النبض، إلّا إنها بدأت تتحوّل تدريجياً إلى لقاءات تنطوي على مبادرات عملية تتضمن استطلاع الرؤى والتصورات أو الأجندات المزمع اتباعها من جانب الفريق الجديد الحاكم من جهة، وما يمكن أن تقدمه الأطراف الأخرى للسلطة السورية من جهة أخرى.
بل يمكن الذهاب إلى أن ثمة رغبة شديدة لدى السلطة السورية الجديدة بأن تنجح مساعيها بتشكيل لوبي عربي ضاغط على الولايات المتحدة الأميركية باتجاه إزالة تدريجية للعقوبات الاقتصادية عن سوريا..
ومن خلال مجمل هذه المبادرات المتبادلة بين السلطة الجديدة والأطراف العربية والدولية الأخرى يمكن الوقوف على ما تعدّه حكومة دمشق من الأولويات التي تسعى إلى تحقيقها أولاً، ولعل في صدارة تلك الأولويات مسألة حيازة الشرعية، أي الاعتراف الدولي بشرعية الحكم الجديد، تمهيداً لاعتراف صريح من الأمم المتحدة.
علماً أن هذا المسعى مرهون باستحقاقات عديدة تعيها جيداً حكومة دمشق، وتحاول جاهدةً أن يكون خطابها متماهياً مع تلك الاستحقاقات، بل ربما ذهبت إلى أبعد من الخطاب الرسمي، ونعني الانتقال إلى مبادرات فعلية بدأت بالتحرك نحو المحيط العربي أولاً من خلال زيارة وفد من حكومة تصريف الأعمال (وزيرا الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات) إلى دولة قطر، يوم الخامس من الشهر الجاري، تليها زيارة إلى الإمارات ثم الأردن.
وذلك في مسعى واضح يراد منه إعادة سوريا إلى فضائها العربي الذي يمكن أن يكون هو المدخل الصحيح للحكم الجديد إلى الفضاء الدولي العام، فضلاً عن حاجة سوريا إلى مستويات عديدة من الدعم وهي تحاول النهوض اقتصادياً وتنظيمياً وسياسياً من نقطة الصفر، ولا يخفى في هذا السياق الحرص الكبير من الوفد السوري على أن تكون مسألة رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا هي من أهم الأولويات، بل يمكن الذهاب إلى أن ثمة رغبة شديدة لدى السلطة السورية الجديدة بأن تنجح مساعيها بتشكيل لوبي عربي ضاغط على الولايات المتحدة الأميركية باتجاه إزالة تدريجية للعقوبات الاقتصادية عن سوريا.
الداخل السوري أساس التمكين وعمادُه
يمكن أن يتفهّم عموم السوريين ضرورة التوجّه للعالم الخارجي (عربياً ودولياً) لتأمين الحصانة الشرعية وكل أشكال الدعم والتمكين للدولة الجديدة، لكن يدركون جيداً في الوقت ذاته أن الاستقواء بالخارج من أجل التمكين لا يمكن أن يكون كافياً، بل ربما تكون الحصانة الخارجية عُرضةً للتشظي أو الانفجار ما لم تكن مقرونة بحصانة داخلية مصدرها الشعب السوري ذاته، بجميع فعالياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي هذا السياق ربما يكون صادماً لكثير من السوريين أن يسمعوا عبر وكالات الأنباء شرحاً مفصلاً من وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال خلال زيارته لدولة قطر عن خطط الحكومة السورية وأجنداتها بخصوص المرحلة المقبلة، والتي كان من المفترض أن تشرحها أو تعرضها الحكومة للسوريين أولاً، سواء عبر تصريحات رسمية أو خطاب موجه لعموم السوريين من الوزير أو رئيس الوزراء.
بل يمكن الذهاب إلى أن مجمل مواقف حكومة تصريف الأعمال وتوجهاتها المستقبلية يتلقاها السوريون من خلال اللقاءات التي يجريها السيد أحمد الشرع مع جهات إعلامية ووفود خارجية، في حين أنهم يتساءلون: لماذا لا يتوجّه الفريق الحاكم في دمشق إلى السوريين بخطاب مباشر ومفصل عن أهم البرامج والتوجهات والخطط الراهنة والمستقبلية للدولة السورية الجديدة؟
ولعل ما يثير حساسية معظم السوريين بهذا الصدد، هو أنهم اعتادوا طوال عقود طويلة من عمر الدولة الأسدية أن يسمعوا أخبار بلادهم من الإعلام الخارجي، وقلّ أن يعلموا بأمر يخصّ مصيرهم من الإعلام المحلّي للسلطة، بل لعل الأمر الذي يبدو أكثر إلحاحاً، هو الغياب الكلّي لجميع وسائل الإعلام الرسمية السورية منذ الثامن من شهر كانون الأول وحتى هذه الساعة، إذ ما تزال قنوات التلفزيون والإذاعة والصحف متوقّفة عن العمل، فهل السبب يكمن في غياب الكادر الإعلامي؟ أم في عدم تبلور خطط إعلامية جديدة أو سياسة تحريرية تواكب العهد الجديد؟
حرص السلطة الجديدة على التماسك وسدّ الثغرات في وجه اختراقات قد تخشى وقوعها، يمكن أن يتحقّق من خلال الإمساك بالمفاصل السيادية والحساسة للدولة كوزارة الدفاع والخارجية والمفاصل الأمنية، أمّا باقي قطاعات الدولة فلا بدّ لها أن تستمر بالعمل بلا توقف، كالتعليم والصحة والإعلام والثقافة وبقية المؤسسات الخدمية الأخرى..
مما لا ريب فيه أن الفريق الحاكم في سوريا ما يزال يدير شؤون الدولة بكادر بشري لا يتجاوز الكادر ذاته في “حكومة الإنقاذ” بإدلب، أو لا يتجاوز كيان “هيئة تحرير الشام”، ولئن برّر السيد أحمد الشرع في مقابلته مع قناة العربية (30 كانون أول الماضي)، هذا التوجّه وعزاه إلى ضرورة توفّر عامل الانسجام أو التجانس لفريق العمل، إلّا أن هذا التبرير وإنْ كان مقبولاً من زاوية ما، إلّا أنه يؤدّي إلى عطالة في فعاليات كثيرة لمؤسسات الدولة.
فحرص السلطة الجديدة على التماسك وسدّ الثغرات في وجه اختراقات قد تخشى وقوعها، يمكن أن يتحقّق من خلال الإمساك بالمفاصل السيادية والحساسة للدولة كوزارة الدفاع والخارجية والمفاصل الأمنية، أمّا باقي قطاعات الدولة فلا بدّ لها أن تستمر بالعمل بلا توقف، كالتعليم والصحة والإعلام والثقافة وبقية المؤسسات الخدمية الأخرى، وهذا لا يمكن أن تنهض به مجموعة محدودة العدد، بل يحتاج إلى جهود كبيرة ومشاركة واسعة من ذوي الاختصاصات والكفاءات التي تزخر بهم البلاد السورية.
وإن شئنا الوقوف على حالة واحدة فقط، كالمجال الإعلامي على سبيل المثال، فيمكن الذهاب إلى أن الكفاءات الإعلامية -وبالاختصاصات كافة- التي كانت تعمل داخل المؤسسات الرسمية للدولة وأعلنت انحيازها للثورة السورية، أو الكفاءات الجديدة التي برزت خلال سنوات الثورة، هي جديرة بالنهوض بأي كيان إعلامي راهن.
لعله من الصحيح أنه لمّا يمض شهر واحد على تحرير البلاد من الطغمة الأسدية، وأنّه من غير المنطقي ولا المنصف المطالبة بوجود العصا السحرية، بل لعله من حق الفريق الحاكم أن يعمل وفقاً للأولويات المتمثلة بتوفير الخدمات والأمن واستكمال البنى التنظيمية والإدارة وفق منهج سليم ومدروس، لكن بالمقابل هناك قطاعات كثيرة من مؤسسات الدولة لا تحتمل الغياب أو العطالة، بل لعل ما هو منطقي أكثر أن تبادر الحكومة الحالية إلى بناء جسور الثقة والتعاون مع الشعب السوري الثائر منذ ثلاثة عشر عاماً قبل أن تبادر بالأمر ذاته مع العالم الخارجي.
المصدر: تلفزيون سوريا