1 – إن لمجرد سقوط نظام القهر المتسلط على سورية منذ اكثر من نصف قرن ؛ وقع عميق جدا في وجدان الشعب السوري الذي قدم تضحيات عظيمة استثنائية للخلاص من نظام قهري مرتهن منافق وفاسد..يحق للسوريين الاحتفال بهذه المناسبة الجليلة إذ يكفيهم ما ذاقوه من قهر النظام وأجهزته الأمنية التي بلغت الخمسين..في هذا اليوم المميز لا يليق إلا الفرح والابتهاج..نصف قرن من القهر الاستثنائي تركت ندبات عميقة في النفس والعقل والوجدان تستدعي فرحا عظيما كمثل الفرح الذي أبداه عموم السوريين بالمناسبة..الف مبروك والف تحية ومحبة لشعب سورية العربي الأبي الذي تحمل ما لا يحتمل فعلا..
2 – لعله من الموضوعي الاعتراف بأن مرحلة من الفوضى والضياع تنتظر سورية في هذه الفترة..فالانهيار في مؤسسات الدولة سبق سقوط راس النظام وهروبه ناجيا بنفسه متخليا عن بلده ومسؤولياته ..كما أن الاختراقات الخارجية لجميع مجالات العمل والأجهزة والأنشطة سابق أيضا..ثم أن التدهور المعيشي وما صاحبه من تفكك مجتمعي بسبب تخلي النظام عن مسؤولياته تجاه شعبه ؛ جميعها عوامل هامة تجعل الحصول على انتقال آمن وسليم امرا في غاية الصعوبة ..لذا فلا يستغربن أحد حصول إشكالات أمنية أو تصادمات متنوعة الأشكال وعبثا بالأمن العام او الأمن الشخصي..لكن ما هو غير مقبول أن تتخطى مثل هذه الإشكالات حدودها الدنيا لتصبح خطرا يهدد الوجود : وجود الوطن ومقوماته ومستقبله وإرادته الحرة..وتبقى مهمة تحجيم تلك الإشكالات ومحاصرتها وتقليل مدة الفوضى المحدودة ومداها وخسائرها ؛ مسؤولية السلطة الجديدة بالتعاون مع ابناء الشعب وقواه الوطنية..
3 – ومن الحكمة القول أن النظام الساقط ليس شخصا أو حتى عائلة أو حتى مجموعة أشخاص ؛ بل هو فوق كل هذا منظومة متكاملة من القوى الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية والسياسية وفي إمرتها أجهزة أمنية مرعبة وجهاز بيروقراطي واسع..ومن المنطقي القول أن هؤلاء جميعا بما لهم من مصالح متضاربة مع التغيير الحاصل ؛ سوف يحاولون إفشال التغيير بوسائل عديدة ليسها أخطرها الالتفاف عليه أو إفراغه من أي مضمون إيجابي ومن ثم القضاء عليه مع إمكانية استعادتهم للسلطة بما يملكون من إمكانيات كبيرة ومن دعم خارجي كبير أيضا..حصل مثل هذا في بلاد كثيرة وتجارب شعبية متعددة..الأمر الذي يشكل صدمة إحباطية مؤلمة..
4 – إن تتابع الأحداث يبين أن تسوية دولية ما قد حصلت وكان من نتائجها أن قوى النظام استسلمت وسلمت البلاد لقوى ” المعارضة ” العسكرية الزاحفة بزخم كبير وإصرار أكبر وثقة بالانتصار عظيمة. هرب بها رأس النظام المجرم منقذا شخصه وعائلته متخليا بالكامل عن أية مسؤولية وطنية تجاه بلاده..ومن الموضوعي القول أن القوى الدولية المؤثرة في الوضع السوري والمتداخلة فيه والتي أنتجت تلك التسوية ؛ ستعمل بكل قوتها ليكون المقبل الآتي متوافقا مع مصالحها تستفيد منه لتثبيت قوة نفوذها في مصير سورية وتمكين مصالحها فيها ..ومن الموضوعي القول أيضا أن مصالح هذه القوى الدولية هي المحرك المباشر لها مع حرص كل طرف فيها على زيادة حصته وتعظيمها والجميع يتوافق وفقا لموازين القوى ولا تؤخذ مصالح الشعب أو إرادته في الاعتبار ..لذلك فكل التسويات الدولية تكون على حساب الطرف الاضعف وهو الشعب..
وإذا كانت التضحيات الجبارة التي قدمها الشعب السوري للخلاص من النظام والقدر العالي جدا من الثبات والإصرار على هدفه المركزي هي التي أجبرت القوى الدولية على التخلص من النظام لأنه أصبح عالة عليها وغير قادر على ضبط حتى مؤيديه وجماعات نظامه..فهذا لا يعني أن الاطراف الدولية تضع مصلحة الشعب السوري أولا وفوق كل اعتبار..وفي حالة التقاء بعض المصالح الدولية مع بعض مصلحة الشعب – جزئيا – تكون الفرصة مؤاتية للتغيير..وهذا ما حصل..إلا أن افتراقا حتميا سوف يحصل مباشرة ليعود كل طرف للعمل وفق مصالحه فقط..هنا توجبت العودة إلى نقطة الانطلاق مما يستدعي حركة شعبية منظمة متكاملة لفرض مطالبها وتحقيق آمالها التي ضحت لأجلها كثيرا..
ولا بد من الاعتراف أن التدخلات الدولية قائمة في كل بلد كبير أو صغير ..وأنه لا حل لأية مشكلة تتعدى تداعياتها حدود البلد الواحد إلا وللتدخلات الدولية يد فيها..هنا أيضا تتميز البلاد بمدى قدرة قواها الوطنية على تصغير حجم ومدى تلك التدخلات ومحاصرتها في أضيق نطاق لتكبير حصة الشعب أصحاب البلد والوطن..ولا يتحقق هذا إلا بالقوة الشعبية الواعية الحرة المتمسكة بأهدافها المدافعة عنها بوجه كل اطماع خارجية..فإلى أي مدى يتوفر مثل هذا الأمر في الوضع السوري حاليا ؟؟
5 – إن الطرف الدولي الأكثر فاعلية في المنطقة وفي سورية حاليا هو الولايات المتحدة..والتي تضع مصلحة دولة الكيان الصهيوني في رأس أولوياتها المطلقة..وبالتالي فهي تناقض كل توجه وطني سوري لبناء نظام ديمقراطي وطني حر..فليس هذا في مصلحتها ومصلحة قاعدتها العسكرية في فلسطين المغتصبة..إن العدوان الإسرائيلي المتجدد في الايام الأولى للتغيير يؤكد أن سورية كوطن وقوة وشعب وممتلكات هي عدو دولة الكيان..وبالتالي سوف يمتد عملها لتقويض أي تغيير إيجابي يكون الشعب فيه هو صاحب السلطة والكلمة والفعالية..
وهذا يسقط من حساب المستقبل أي احتمال لدور إيجابي يمكن للولايات المتحدة أن تؤديه في سورية..ومن المتوقع تعاظم الدور الإسرائيلي التخريبي في الوضع السوري سواء بالتدمير أو التوسع والاحتلال أو بالاغتيالات..
وسواء كانت امريكا وراء التسوية الدولية أم لا فإنها لن تترك الشعب السوري يبني دولته ويقرر مصيره بحرية ووفق هواه ومصالحه..
6 – إن قوى التغيير المتصدرة للمشهد جديدة على العمل السياسي والإداري للنظم والمؤسسات..ولذا لا يتوقع منها انتفاء الأخطاء منذ الأيام الأولى للمرحلة الجديدة..والعبرة بالرغبة الأكيدة في تقليل الأخطاء ومعالجتها وعدم تركها تتفاقم فيصعب حلها أو ضبطها..وتلك مسؤولية كبيرة ومشتركة مع كل قوى العمل الوطني الشعبية..فهل يقدرون على ممارسة مثل هذا التكامل بعيدا عن تجبر النفوذ وغرور السلطان وادعاء الوحدانية ؟؟
7 – وبما أن الواقع الموضوعي للأحداث الدامية في متون ثورة الشعب السوري وما صاحبها من تدخلات خارجية؛ قد أفرز مراكز قوة مسلحة متعددة مختلفة بينها نوعيا ومتباعدة جغرافيا؛ فمن الواقعية القول بإمكانية أن ينعكس هذا التنوع والاختلاف تشتتا في التوجهات ومناطق النفوذ مع ما يترك هذا من أبواب مفتوحة تجري فيها رياح التقسيم أو الكانتونات أو الفيدرالية..وكلها تصغير لسورية حتى وإن بقيت دولة واحدة إسميا..
8 – إن صراعات دولية كثيرة جرت على سورية مترافقة بأطماع استعمارية متعددة..ومنذ تأسيسها لما تزل الجمهورية العربية السورية محط أطماع احتلالية لأهم القوى الإقليمية والدولية..وهذا ما يفسر رعايتها للنظام الذي حكمها بالقهر والبطش والإرهاب ما أدى إلى إنقاص مناعة الشعب السوري وتفتيت وحدته وتهميش دوره ; الأمر الذي سهل التدخلات الخارجية ومكنها من الاستحكام في المسألة السورية..لذا فإن النظام الساقط المتهالك الذي حكمها نصف قرن هو المسؤول الأول عن تهاوي القوة الوطنية وضعفها أمام الغزو الخارجي..
9 – إن محاكمة ومحاسبة رموز الفساد والإجرام في النظام السابق؛ مهمة وطنية شعبية ضرورية ولا غنى عنها عاجلا أم آجلا..فهي بحد ذاتها لازمة لتخفيف مشاعر الاحتقان والفرز والانتقام وهي خطوة ضرورية لبناء مستقبل آمن مطمئن لسورية وشعبها..وهذا يستدعي من قوى التغيير الفاعلة إعداد ملفات قضائية ومن ثم محاكمة ومعاقبة المجرمين..والتقدم بمستندات ثبوتية للمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لاعتقال ومعاقبة أي مجرم حرب هرب خارج سورية..كذلك العمل على استرداد الاموال العامة المنهوبة ومحاكمة سارقيها..
10 – مما لا شك فيه أن المرحلة الراهنة تواجه صعوبات كثيرة..أما معالجتها فتحتاج اشتراك كل القوى الوطنية والفعاليات الشعبية في عملية بناء نظام جديدة لدولة متجددة تلبي طموحات شعبها ..وتليق بتضحياته العظيمة..
إن تكاتف القوى الشعبية المتوافقة مع التغيير الذي تم والمؤيدة له أمر بالغ الأهمية وخاصة في السريع العاجل دون إبطاء أو تأخير..تكاتف جميع قوى التغيير وفعالياته في رؤية وطنية واحدة تطلق ورشة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وفق معايير وطنية نظيفة مبرأة من كل انحياز فئوي أو عصبية من نوع خاص سوى عصبية الولاء للوطن فقط لا غير..
ومن حقنا بل من واجبنا – نحن محبو سورية الحريصون عليها وعلى شعبها ووحدتها ودورها وهويتها وقيمها الحضارية – التخوف من احتمالات غير مرضية أو مقبولة..احتمالات انزلاق الأوضاع إلى ما يشبه ما حصل في ليببا والعراق وسواهما..لا قدر الله..
وحتى لا يحصل مثل هذا ؛ على كل القوى الوطنية التكامل في عمل وطني واحد مباشر في ورشة البناء والتغيير الحقيقي وتحجيم مفاعيل التدخلات الخارجية وتسوياتها..
وإذا كان نصف قرن من القمع والقهر قد عطل الحياة السياسية في سورية وأفسدها ؛ الأمر الذي لم يسمح بقيام حركة وطنية شعبية موحدة حتى اليوم ؛فإن المتغيرات الراهنة تفرض وتستوجب بإلحاح تأسيس هذه الحركة الوطنية لتضم كل طاقة وكل فعالية شعبية مخلصة لسورية وشعبها..إن مثل هذا التكامل الوطني المنظم الفاعل يعيد الفعالية للحركة الشعبية ويضبط إيقاعها ويساعد قوى النفوذ العسكري في التملص قدر الإمكان من الوصايات الخارجية وتدخلاتها المخربة والمعوقة..
إننا نرى في النداء الذي أطلقه المناضل الثوري الحر الدكتور نوار عطفة لعقد مؤتمر وطني للقوى الشعبية؛ يحمي التغيير ويفعله بتكامل كل القوى المؤيدة له والحريصة على نجاحه ؛ أكثر من ضرورة ملحة ..مؤتمر يضع برنامجا زمنيا واضحا محددا للمرحلة الانتقالية الراهنة ..يشارك فيه الجميع قولا وعملا وتنفيذا..فالأخطار كبيرة والمتربصون بالمستقبل أكبر..
إن المخزون الثوري الذي تفجر زخما نضاليا في الثورة؛ قد ترجمته مشاعر الفرح بسقوط نظام القهر والعدوان..فلا يفسدن تقصير من هنا أو سلبية أو اتكالية أو عشوائية أو تفرد أو فئوية من هناك ؛ هذا الزخم النضالي اللازم لبناء سورية الجديدة..وليكن شعار الجميع :
” معا لإزالة آثار نظام القهر والعدوان وبناء سورية جديدة “..