أخيراً، انتفضت الجامعات الغربية في أميركا وفرنسا وأستراليا أيضاً بعد أن غار الجرحُ عميقاً في ضمير الأكاديمية، لكن لماذا تأخّرت هذه الانتفاضة مع أنّ مشاهد التهجير والتقتيل حدَّ الإبادة لم تنقطع ساعة واحدة منذ ستّة أشهر؟ وكيف نفسّر العنف الشديد الذي تستخدمه السلطات الأمنيّة في قمع هذه الاحتجاجات وهو عنف لم نعهده إلّا في البلدان الديكتاتورية؟
قد يُفسّر تأخُّر هذه الاحتجاجات بهيمنة السردية الإسرائيليّة التي سوَّقَتْها آلة إعلاميّة عتيّة هي بأيدي شركات عملاقة لها تقاطُعات مع ساسة هذه الدُّول، وكلُّها روّج لـ”حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس”، وكلّها هوّلت التعاطف مع فلسطين حتى جعلته رديف “مُعاداة السامية”، ثم نسجَت حول هذا التعاطُف هالة سلبيّة دعمتها بخطاب سلطوي يحوّله إلى جريمة يُعاقب عليها القانون مع التنفيذ العاجل.
ولذلك أحجم الطلّاب والأساتذة، أكانوا من أصول عربية أم لا، عن الاحتجاج القوي في حرَم الجامعات، كأنما عاشوا مرحلة اختمار تلاشى فيها تدريجيّاً الأثر التضليليّ للخطاب الإسرائيلي وأقنيته الأميركيّة. وفي المقابل، اتّضحت الصورة للجميع وعلَت على ما عداها، ولا يصمد معسول الكلام أمام الدم القاني وأكوام الحجارة، في صُور هؤلاء الأطفال والنساء والعُجّز الذين فتكت بهم آلة الحرب الغاشمة حتى سقطت ورقة التوت ولم يعُد ضمير الجامعات، بما هي – نظريّاً – معاقل المعرفة والفلسفة والأخلاق، يتحمّل المزيد من النفاق والتبرير، فانفجر من الداخل واكتشف القائمون عليها أنها تَخُونُ القيم التي تأسّست عليها وما فتئت تبشّر بها. لم يعُد أحدٌ يتحمّل حالة الانفصام الفكري التي يعيشونها منذ أشهر: تدّعي الجامعات رفْضَ العنف وإدانة الإرهاب ونشر المعارف وقيم الإنسانية وفي الوقت نفسه تشهد على أفظع عملية إبادة حديثة، بل تتواطأ فيها بالصمت المُريب، بالمال السخيّ، بل بالصوت الانتخابي الحاسم. بلغ التناقض المدى فتهدّم الهيكل على ساكنيه من الداخل.
“لكلّ أجلٍ كتاب” وأجَلُ القضية الفلسطينية منتقشٌ في ضمائر الكون، لكنه مقموع بخطاب القوى الناعمة وأدوات السُّلَط الغاشمة، هو الحقّ الذي تشهد به الفِطَر السّليمة في صفائها والمواثيق الدولية في تعقُّدها، وهذا ما يفسّر ضخامة الوسائل التي نُشرت من أجل قمع هذه الاحتجاجات التي عرَّت خطاباً بأكمله، بل جعلت السّلطة من دون خطاب ولا أساس شرعية ولا تبرير. تصدّت الفئات الطلّابية وأساتذتها لجبال الأكاذيب التي تراكمت في المشهد السياسي والإعلامي طيلة الأشهر الماضية. وردّت السلطات بقمع الاحتجاجات التي عَرَضت سوأتها على الملأ، تلك التي لم تفتأ تدعم إبادة وحشية لم يسلم منها بشرٌ ولا حَجر وكشفت مظاهر السقوط الأخلاقي الذي تردّى فيه هذا الغرب حين انقلب على كلّ مبادئه التي طالما تبجّح بها، بل عاقب، مُتعجرفاً، مَن يحيد عنها قِيد أنملة.
كان عنف هذا القمع بقدر قُدرَة الجامعات على فضح التواطؤ الغربي الذي تلطّخت أيادي قادته بدماء الأطفال والرضّع. للاحتجاجات في الحرم الجامعي قداسَتُها وشرعيتها: فعندما تأتي من الشارع، تسارع وزارات الداخليّة، ضمن معركة الأرقام، إلى التهوين من شأنها وجعلها من ألاعيب الأحزاب اليساريّة التي يسهل وَصمُها بـ”التطرُّف”، كما حصل مع “حزب فرنسا الأبيّة”، أو حتى اعتبار تلك المظاهرات امتداداً لـ”شغب شُبّان الضواحي”، أبناء المهاجرين المخرّبين.
أما أن تنطلق هذه الاحتجاجات، وإن متأخّرة، من صلب الأكاديمية ومن المعاهد والجامعات العُليا، فذلك يعني أنّ الصوت الصادح والحنجرة الصارخة قد تجاوزت الأفق الأيديولوجي وكسرت طوق الانفعال الآني. انفلت الاحتجاج من عقاله في الأوساط الجامعيّة على اختلاف مشاربها بعد أن خمدت وسائل التخدير التي أرسلتها أجهزة الدعاية: الأطفال في غزّة يموتون وفي الجامعات حَلقاتُ نقاش “بورجوازية” تتناول “تسهيل الحوار وتعزيز السلام الاجتماعي!”.
تقول هذه الاحتجاجات إنّ التخدير الذي انطلى في الأشهُر الأولى لم يعد يقوَى على مقارعة الصور الحقيقية العارية التي تصطفّ فيها مئات الجثث في أكفانها البيضاء، تتسرّب منها بُقع الدم القانئ، دمُ الرُّضَّع والنساء اللواتي لن يقدر أي خطاب مهما تناهى في بلاغته أن يصمهم بالإرهاب ولا بتهديد أيّ أمن قوميّ.
لم يعُد ما تبقّى من مُسكة العقل النقدي يتحمّل عمليات الاحتيال والتمويه التي تستخفّ بعقول الطلّاب وأساتذتهم وهُم يُشاهدون هيكل القِيم يتهاوى بعد أن شهدوا زُوراً على تماسُكه، “شهادة زُور” لم يعُد أحد يطيق تقديمها في الوقت الذي يبصر فيه الجميع آلافَ الضحايا يسقطون المئة تلو الأُخرى، أمام عجز دوليّ وصمت جمعيات حقوق الإنسان والقادة الدينيّين والثقافيّين. انهار الصرح المُزيَّف أمام الجميع فلم يبق سوى الخروج، وإلّا سقطت النخبة الجامعية في اللّا-معنى: تُدرّس هذه الجامعات العلوم الإنسانية والسياسية في الوقت الذي تُنتهك فيه أبسط قواعد السياسة بوحشيّة القرون الوسطى، وتُداس الإنسانية بآلة الحداثة وذكائها الاصطناعي. لا يُمكن لدَرسٍ أن يتواصل ولا لمحاضرة أن تُلقى. صار استمرار الدروس عبثاً لا يطيقه ذو لبٍّ.
ومع ذلك، يظلّ السؤال قائماً: لماذا كان إيقاع الجامعات أبطأ من إيقاع الشارع؟ بالفعل، عرفت المدن الأميركية وباريس ذاتها العديد من المظاهرات قبل أشهر، لكنّها لم تكتسِ هذا الطابع الأكاديمي إلّا في هذه الأيام بعد أن كانت أكثر شعبيّة. تفاوُتٌ قد يشرحُ بخُبث وسائل الرقابة وما تُمارسه من لَفْت انتباه وتزييف للوقائع ورفع للشعارات المُضلّلة والقرارات السخيفة، ومن آخرها أن يتدخّل رئيس ألمانيا لإلغاء نقاش حول غزّة بحُجج واهية، لعلّ أسخفها ما عبّر عنه بيانُ مكتبه: “خلق مساحة لآلام جميع الأطراف”، سطحيّةٌ باردة منعت خروج الاحتجاجات من قبل، ولا نخالها تصمد لأنّ الألم الفلسطيني طغى على كلّ مساحة حتى عاد كلُّ وجع غيره هيّنٌ، وإن تاجر به “بارونات” الحرب.
انتفضت الأكاديمية أخيراً لتُذكّر العالَم بأن المثقّفين والمتعلّمين يبرؤون من قادتهم، ولا يُوافقون على سياستهم المُتواطئة وبأنّ سُلطة المعرفة لن تخضع لسُلطان القوّة ولا لعنف الشرطة وأباطيل الإعلام وأشباه المثقّفين المُمالئين. غار الجُرح عميقاً في ضمير المعرفة وعلوم الإنسان واللسان التي كانت لها فضيلة تعرية التلاعُب، فكيف بها وهي الآن تُشاهد إبادة تجري تحت أنظار العالَم بهيئاته الدولية والعسكرية من دون أن يرفّ لقادته جفن.
صراخ الجامعات العريقة وإن كان سيُصمّ آذان الساسة، فإنّ هؤلاء سيُواصلون محاولة تدجينه حتى إخماده ضمن منطق السلطة الرافض دوماً لكلّ نقد أو محاسبة. وعلى الجامعات أن تظلّ معاقل للمعرفة، وأعلى المعارف الإقرار بأوْلويّة أن الإنسان الفلسطيني ليس أقل من سائر بني الإنسان، وأن نُسمِّي قتل أكثر من خمسة وثلاثين ألف شخص إبادة، بكُلّ تبعاتها القانونية.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
المصدر: العربي الجديد
ليس بالضرورة ان يعبر هذا المقال عن رأي الموقع