لم يتوقف الجدل طيلة الشهور الماضية حول التوجه الامريكي لإنهاء نفوذ ايران في العراق، او التفكير بشن حرب شاملة او محدودة ضدها. حيث انقسم الناس ما بين مصدق ومكذب. لتتصاعد حدته بعد تسلم مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة، ووصفه برجل امريكا الذي فرضته بالقوة على ايران وعلى قادة المليشيات المسلحة الموالية لها، لياخذ على عاتقه ترجمة التوجه الامريكي على ارض الواقع. وبعيدا عن التكهنات، فان تاكيدات الكاظمي حول تنفيذ برنامجه قد رجحت كفة المتفائلين. حيث اطلق عددا من التصريحات النارية حول استعادة هيبة الدولة، وحل المليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، وابعاد العراق عن الصراعات الاقليمية والدولية ورفض التدخل في شؤونه الداخلية. في اشارة واضحة لايران وتدخلاتها السافرة في العراق، ثم انهاء الفساد وضرب الفاسدين بيد من حديد. ولم ينس الكاظمي تعهده بملاحقة المتهمين بقتل الثوار واحالتهم الى القضاء . ولتمرير هذه الادعاءات، اقدم على اعتقال عدد من قيادة حزب الله العراقي، المليشيا الاكثر ولاء لايران والاكثر تمردا من بقية المليشيات الاخرى، حتى شبه البعض هذا الفعل بساعة الصفر لبدء الهجوم. وبصرف النظر عن صحة او كذب ادعاءات الكاظمي أو النوايا الامريكية لانهاء النفوذ الايراني، فان استمرار هذا الجدل العقيم سينعكس سلبا على مسيرة الثورة العراقية. فبدلا من تشجيع الناس على الدخول في رحاب الثورة، سيشجعهم على الدخول في قاعة الانتظار، ليضافوا الى اولئك الذين عبثا ينتظرون غودو، الذي لا وجود له في عرض مسرحي رث لسرقة الثورة.
لا اخفي الشعور بالغثيان كلما طرقت هذا الباب. فلقد عودنا اسلافه الاشرار على سماع مثل هذه الادعاءات، كلما تسلم احدهم منصب رئيس الحكومة، مثلما خبرنا نتائجها الخائبة. فامريكا التي اتت بالكاظمي وفرضته على ايران، هي نفسها المتهم الاول بالتواطؤ مع ملالي طهران لتنفيذ مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. هذا لا يعني عدم حدوث خلافات بين البلدين. لكن ما يعنينا هنا ان هذه الخلافات لم ولن تتطور حد القطيعة، وانما تنتهي دائما بسلام وهدوء. على الرغم من وصولها احيانا الى حد التهديد بالحرب. ولكي لا نذهب بعيدا، نذكر ما حدث خلال العام الماضي. حيث لحس رئيس امريكا، الذي وصف بالمتشدد ضد ايران، تهديداته النارية، التي توعد فيها ملالي طهران بالويل والثبور، بعد اسقاط الحرس الثوري الايراني طائرة امريكية مسيرة ذات تقنيات عالية، ثم انسحاب حاملات طائراته من مياه الخليج العربي في اعقاب تحرش ايران بناقلات النفط التي سميت لاحقا بحرب الناقلات . اما اخر فضائح ترامب فهي الغاء الهجوم الجوي على خمسين موقع عسكري وونوي ايراني خشية من وقوع ضحايا ابرياء من الايرانيين!!!!. وكان ذلك بمناسبة رد ايران على مقتل جنرالها قاسم سليماني بقصف صواريخ باليستية بعيدة المدى لقاعدة عين الاسد الامريكية في غرب العراق، التي راح ضحيتها عدد من الجنود الامريكان.
لا علاقة لاصل الخلاف بين امريكا وايران في العراق بخلافاتهما في المنطقة العربية التي تجبر امريكا على اتخاذ اجراءات عقابية ضد ايران مثل فرض الحصار الاقتصادي او المالي او غيرها لتحقيق اهداف محددة . فالخلاف في العراق يعود ، كما ذكرنا سابقا، الى التقديرات الخاطئة للرئيس الامريكي السابق باراك اوباما، حول المعادلة التي استند اليها سلفه بوش الابن لادارة مشروع الاحتلال الغادر، والمتمثلة بركيزتين اساسيتين ترتبطان بعلاقة عكسية، عسكرية وسياسية، تتناوبان الحضور والغياب وفق الظروف والاهداف. فحين قرر اوباما سحب معظم قواته البرية من العراق زاد اعتماده على الجانب السياسي، وذلك من خلال دعم العملية السياسية وتجذيرها والتحكم باليتها وادارتها وتوجيه قيادتها بما يخدم مشروع الاحتلال الامريكي، مقابل منح ايران مكتسبات اضافية، منها غض النظر عن تدخلاتها في العديد من الاقطار العربية، لتنتهي باقرار مشروع ايران النووي من خلال اتفاق مكتوب شهدت عليه اربع دول اوربية كبيرة. ولم يدر في خلد اوباما حينها، لشدة غبائه بالدهاء الفارسي، استغلال ايران لهذا المشهد ونيل حصة الاسد في العراق على حساب حصة امريكا. الى درجة السماح لها بالسيطرة على مفاصل الدولة، بل والتحكم بالقرار السياسي لتصبح لاحقا غولا متوحشا يصعب ترويضه.
امام هذا الوضع المرتبك، اضطر الرئيس الجديد دونالد ترامب الى ضرورة التحرك بكل الوسائل لتاديب الحليف الايراني واعادة ملالي طهران الى رشدهم والتخلي عن شياطينهم، بما فيها التلويح باستخدام القوة العسكرية. ولم يشك ترامب لحظة واحدة بان ملالي طهران لن يستمروا في تجاوز الحدود المسموح بها، والحفاظ على ما حققوا من مكتسبات هامة. خاصة وان ملالي طهران يعلمون علم اليقين بقوة امريكا وجبروتها والتها العسكرية القادرة على تدمير طهران في ظرف ساعات دون الدخول في شبر واحد في الاراضي الايرانية، مثلما يعلمون علم اليقين بان المليشيات المسلحة الموالية لها في العراق لا تستطيع تهديد القوات الامريكية سواء في العراق او خارجه لان الملالي، سيتحملون النتائج الوخيمة وعواقبها المدمرة. بمعنى اخر اكثر وضوحا، فاذا شعر ملالي طهران بجدية امريكا بشن حرب ضدهم، فانهم لن يتاخروا بالركوع امام العصا الامريكي والقبول بكل شروطها واملاءاتها. وهذا بدوره سيؤدي الى ركوع قادة المليشيات تحت ذريعة حماية الجمهورية الاسلامية من السقوط.
وفق هذا السياق فان النفوذ الايراني في العراق لن يمسه سوء او ضرر، ما دام هذا النفوذ لا يشكل خطرا على امريكا في العراق. بل يخدم ويسهل مخططها بتدمير العراق دولة ومجتمعا. وقد اكد هذه الحقيقة قبل اكثر من اسبوع تشارلز بينا كبير الزملاء في مؤسسة ديفنس برايوريتز، في مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية، وتحديدا يوم الثامن عشر من هذا الشهر، بقوله “إن السؤال المهم الذي يتعين طرحه: هو هل نفوذ إيران في العراق يقوض الأمن القومي الأمريكي؟ ويرى أن الإجابة هى: لا”. وفي تبريره لإجابته، قال تشارلز الذي يتمتع بخبرة أكثر من 25 سنة في دعم وزارتي الدفاع والأمن الأمريكيتين كمحلل سياسات
وبرامج، “إن إيران ليست تهديدا عسكريا مباشرا او غير مباشر للولايات المتحدة. فقوة ايران العسكرية لا تعادل اثنين في المئة من القوة العسكرية الامريكية”. في المقابل ذهب العديد من الشخصيات الامريكية ابعد من ذلك واشاروا ان هناك صفقة شبه مكتوبة تم عقدها بين امريكا وايران قبل احتلال العراق وعلى وجه التحديد بعد خروج العراق من الكويت عام 1991 منهم ادوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية الامريكية الاسبق لشؤون الشرق الأدنى وافريقيا، وجون سبوزتو وستيفن زوترو من الباحثين السياسيين، ومن الكتاب ذوي الصلة الوثيقة بالامريكان اللبناني الامريكي الفارسي الاصل فؤاد عجمي، ومن العراقيين احمد الجلبي وكنعان مكية وليث كبة ورند الرحيم
لندع الكاظمي يفعل ما يحلو للناظرين وندع المروجين له يعيشون اوهامهم ونسلط الضوء على حقيقة موقف الثورة العراقية من الكاظمي، ومن العملية السياسية الفاسدة التي ينتمي اليها بكل اخلاص . حيث تحدثنا في مقالات سابقة عن مواضعات منصب رئيس الحكومة، الذي لا تحدده قوة هذا الشخص او ذاك، وانما يحدده رضى المليشيات المسلحة وحجم اسنادها له من جهة، ومباركة المرجعيات الدينية الراعية للفساد من جهة اخرى. ولكي لا نطيل اكثر، فقد حدد ابناء الثورة العراقية عدة اهداف غير قابل للقضم، او الالتفاف عليها اولها اسقاط اية حكومة تاني من داخل العملية السياسية او بترشيح منها او ذات صلة بها. والكاظمي تلميذ نجيب فيها. وعلى هذا الاساس رفضه الثوار في جميع ساحات التحرير، مثلما رفضوا من قبله رفاقه من قبله مثل محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي. والهدف الثاني حل البرلمان كونه ركن اساسي من اركان العملية السياسية والمشرع لفسادها وجرائمها، وعلى هذا الاساس رفض الثوار استمراره تحت اية ذريعة كانت، ورفض التعديلات الملتوية التي اجراها على قانون الانتخابات وعلى المفوضية العليا للانتخابات. والهدف الثالث الدعوة لانتخابات مبكرة باشراف اممي بعد تعديل قانونها وتشكيل مفوضية مستقلة تنظم سيرها. وما قدمته الثورة من دماء زكية من اجل تحقيق هذه المطالب المشروعة، لن تذهب سدى، او القبول بانصاف الحلول. وبالتالي فاية محاولة او دعوة للوثوق بالكاظمي او التهاون في النضال من اجل اسقاطه هو وحكومته وبرلمانه هي دعوة تتعاكس مع مطالب الثوار وشعار الثورة المركزي نريد وطنا من دون هؤلاء الاشرار. خاصة وان الثورة قد غادرت عقلية المراهنات ونجحت في اجتثاثها من عقول الناس. واذا اراد الكاظمي ان يسرق الثورة بطريقة استعراض القوة او الخطابات الشعبوية بعد ان عجز زملاؤه في العملية السياسية من سرقتها مثل التيار الصدري وحزب بول بريمر الشيوعي، فهو اما غبي بامتياز او ختم الله على قلبه وعلى سمعه وعلى بصره غشاوة. فالثورة بلغت سن الرشد واشتد عودها وتعمدت بدماء ابنائها.
ان الثورة العراقية ستواصل مسيرتها حتى اذا اجبر الكاظمي على تحقيق مطالب جزئية او القيام باصلاحات محدودة. فالثوار قالوا كلمتهم، نريد استعادة الوطن من دونكم او نعود بالاكفان. بمعنى اخر فان اي مكسب يتحقق مهما كان كبيرا لن يوقف مسيرة الثورة باتجاه تحقيق كامل اهدافها. خاصة وان الثوار غير مشغولين بهذا الجدل، وانما مشغولون باعداد العدة لانطلاق الموجة الثالثة للثورة. ختاما اقول للأشرار، حتى وان رممتم سفنكم غرقكم غير رحيم.
المصدر: كتابات