يبدو أنّ تعاطف الرئيس الأميركيّ جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامّين نتنياهو بدأ يقترب من نهايته. فقد وصف بايدن يوم الثلاثاء قصف إسرائيل على غزّة بأنّه “عشوائيّ” محذّراً من أنّه سيتسبّب بخسارتها للدعمين الغربيّ والأميركيّ. وكانت “سي أن أن” قد ذكرت الخميس أنّ تقريراً استخباريّاً أميركيّاً بيّن كيف أنّ نحو نصف القنابل التي ألقاها الطيران الإسرائيليّ على القطاع كان من نوع القنابل الغبيّة.
نتنياهو “المحاصَر”
ليس بايدن مهتمّاً بوقف الحرب على غزّة خوفاً من تراجع شعبيّته وحسب، بل رغبةً أيضاً بتفادي انفلاش الحرب إلى حريق إقليميّ أوسع. لكن طالما أنّ نتنياهو في الحكم، يمكن أن تجد واشنطن أنّ لنفوذها داخل الحكومة الإسرائيليّة حدوداً. ويبدو أنّ شعبيّة نتنياهو المتراجعة إلى حدّ كبير بين الإسرائيليّين قد لا تعني الكثير على المستوى السياسيّ، إذ يصعب توقّع سحب الكنيست الثقة من الحكومة خلال الحرب بحسب تقرير لـ”هآرتس”. لا يعني ذلك أنّ نتنياهو متحرّر من كلّ القيود.
في السابع من كانون الأوّل، نشرت مجلّة “إيكونوميست” تقريراً يشير إلى أنّ نتنياهو أصبح تحت “رحمة” حلفائه من اليمين المتطرّف في الحكومة. فهم مكّنوه من العودة إلى الحكم بعد 18 شهراً في المعارضة ممّا أفقده مثلاً القدرة على التحكّم بالموازنة وحتى التخطيط لما بعد الحرب على غزّة. من جهة أخرى، يواجه نتنياهو مشكلة مع حزبه (الليكود) حيث العلاقة متوتّرة مع وزير دفاعه يوآف غالانت، كما يركّز وزير الصناعة نير بركات، ليكوديّ آخر، على مستقبل الحزب بعد نتنياهو. ولم يكن لنتنياهو تأثير كبير مثلاً في قرار الهدنة أو بدء العمليّة البرّيّة وفق المجلّة. لكن يبدو أنّ لرئيس الحكومة الإسرائيليّ طرقاً خاصّة للتعويض عن مكانته المتراجعة.
أبدى رئيس الوزراء الإسرائيليّ يوم الثلاثاء رفضاً قاطعاً لتولّي السلطة الفلسطينيّة إدارة القطاع بعد الحرب، في ردّ مباشر على مقترحات واشنطن. بمعنى آخر، سيواصل نتنياهو رفض حلّ الدولتين طالما أنّه لا يرى ممثّلاً شرعيّاً للفلسطينيّين كي يتفاوض معه. وعلاوة على انعدام الكيمياء في العلاقة الشخصيّة بين الرجلين، وهو ما لمّح إليه الرئيس الأميركيّ يوم الثلاثاء، يدرك بايدن أنّ كبح جماح نتنياهو مهمّة شاقّة في وقت يقاتل الأخير من أجل نجاته السياسيّة. والأخيرة لا ترتبط بالانتصار التامّ على “حماس” وحسب بل أيضاً بمنع التطرّق إلى حلّ الدولتين على ما يبدو. تشير “وول ستريت جورنال” إلى أنّ رفض عودة السلطة الفلسطينيّة إلى قطاع غزّة هو خيار شعبيّ إسرائيليّ حيث وجد استطلاع رأي في هذا الشهر أنّ 7 في المئة من الإسرائيليّين فقط يؤيّدون تولّي “السلطة” إدارة القطاع.
هل ينجح رهانه؟
يعتقد محلّلون أنّ نتنياهو قادر بشكل أو بآخر على تعزيز أوراقه في المدى المنظور. في 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، كتب غرايم وود في مجلّة “أتلانتيك” أنّ نتنياهو استفاد من وجوه اليمين المتطرّف في حكومته ليصوّر نفسه بأنّه أكثر “تعقّلاً” منها، حيث يصبح تصريحه عن البقاء في غزّة بعد الحرب “أكثر ديبلوماسيّة” بالمقارنة مع تصريحات حلفائه عن تسوية غزّة بالأرض أو ضربها بالسلاح النوويّ. بالمقابل، عجزَ القائد السابق للجيش بيني غانتس عن الرسملة على تزايد شعبيّته وتقديم صورة قياديّة صلبة، كما يعجز اليسار عن تقديم مقترحات حيويّة كالتعاون مع السلطة الفلسطينيّة في إدارة قطاع غزّة، وتفعيل حلّ الدولتين الذي يجهضه توسّع الاستيطان المستمرّ.
يجيد نتنياهو قراءة الرأي العام الإسرائيليّ ولهذا السبب سيراهن على موجة يمينيّة متصاعدة لمحاولة تأجيل نهاية مسيرته السياسيّة. فقد لفت غرايم إلى أنّ الهجوم الذي شنّته “حماس” أفقد نتنياهو صدقيّته، لكن ليس صدقيّة اليمين الإسرائيليّ بشكل عامّ. ولم يكن الوحيد الذي أشار إلى هذه الفكرة.
تذكر مستطلِعة الرأي داليا شيندلين أنّ الإسرائيليّين مالوا نحو اليمين في الغالبيّة الساحقة من حالات الحرب أو التوتّر. وأضافت في مجلّة “فورين أفيرز” أنّه قبل أيّام من هجوم “حماس”، ذكر استطلاع رأي للجامعة العبريّة أنّ ثلثي الإسرائيليّين اليهود عرّفوا عن أنفسهم بأنّهم من اليمين (المتطرّف أو الوسط)، وهذا يعني أنّه مقابل كلّ يساريّ يهوديّ كان هناك نحو سبعة من اليمين. لم تتوقّع شيندلين استمرار هذا الاتّجاه بعد هجوم “حماس” فقط، بل رأت أنّ حتى رحيل نتنياهو لن يغيّر المسار. فغانتس نفسه، وبالرغم من أنّه سيبتعد عن شعبويّة نتنياهو في حال وصوله إلى الحكم، لن يشقّ طريقاً بعيداً من اليمين، أوّلاً بسبب وجود “ليكوديّين” سابقين في حزبه وثانياً لأنّه رفض منذ فترة حلّ الدولتين، كما أوضحت.
وثمّة أكثر من استطلاع رأي يبيّن وجود هكذا توجّه إسرائيليّ عامّ. فقد وجدَ مسحٌ لـ”المعهد الإسرائيليّ للديموقراطيّة” أنّ 87 في المئة من الإسرائيليّين اليهود أيّدوا مواصلة الحرب بعد انتهاء الهدنة الأخيرة.
حسابات معقّدة
وسط حالة عدم اليقين، سيحاول نتنياهو تعزيز “مركزيّته” كلاعب لا غنى عنه خلال الحرب، وربّما بعدها، بالرغم من ضآلة الاحتمال الأخير. وإن كان غرايم قد استبعد بقاء نتنياهو في منصبه لأكثر من عام، فإنّ بقاءه ولو إلى الصيف المقبل لن يمثّل نبأ سارّاً لبايدن على أبواب الانتخابات، بما أنّ ذلك يعني مبدئيّاً تلازم استمرار الحرب، أو بالحدّ الأدنى عمليّات عسكريّة كبيرة، مع وجوده في رئاسة الحكومة. وأعلن غالانت أمس أنّ الحرب على “حماس” ستستمرّ لفترة “تتجاوز بضعة أشهر”. كما أنّ فرض بايدن ضغوطاً إضافيّة على نتنياهو ليس أمراً سهلاً لأسباب داخليّة. فهو سيخاطر بإغضاب الجمهوريّين لأنّه “تخلّى” عن حليفته في لحظة صعبة، ممّا يجعل الملفّ أحد العناوين الانتخابيّة الساخنة.
كيفيّة تعامل واشنطن مع هذه الحسابات المعقّدة أمر قيد المراقبة، لكنّ خروج بايدن عن صمته تجاه علاقته المهتزّة مع نتنياهو أو تجاه توصيفه القصف الإسرائيليّ بالعشوائيّ يظهر أنّ صبر واشنطن ربّما بدأ ينفد. المهمّ معرفة ما إذا كان نفاد الصبر سيتحوّل إلى استراتيجيّة ضاغطة.
المصدر: النهار العربي