فيما تكتفي واشنطن بدور المراقبة عن بعد وإصدار المواقف الإعلامية بخصوص خطوات التقارب التي تبديها بعض الدول العربية تجاه نظام الأسد بغية إعادة دمجه في المحيط العربي من جديد، فإن موسكو من جهة أخرى تسعى بدأب – على الرغم من انهماكها في حربها على أوكرانيا – إلى تعزيز المسعى العربي الذي ترى فيه استمراراً لما رسمته وخطّطت له في الثلاثين من إيلول عام 2015 ، إذ لم يكن التدخل الروسي العسكري المباشر آنذاك محكوماً بحاجة آنية إلى إنقاذ نظام دمشق من السقوط وتمكينه عسكرياً فحسب، بل استثمار ما يمكن إنجازه عسكرياً في إعادة تأهيل الأسد سياسياً من خلال تحييد قوى المعارضة ومن ثم تقليص نفوذها وحصره بدور وظيفي يمكن استثماره في الوجهة التي يريدها الروس، ولا حاجة للتأكيد على أن التأييد الضمني الذي حظي به بوتين في حربه على السوريين، من واشنطن ومن خلفها أوربا قد جسّد الحافز الأكبر لكي تتوسّم روسيا في الغرب مشاعر القبول، أو على الأقل عدم الاعتراض على سيرورة الحرب الروسية ونتائجها في سورية.
لعل لقاء ( فيينا – تشرين الثاني 2015 ) الذي التقت فيه أكثر من عشرين دولة ، أطلقت على نفسها يوم ذاك ( مجموعة الدول الداعمة لسورية)، قد جسّد الإرهاصة السياسية الأولى للتدخل الروسي، والتي تُرجمت سياسياً بانزياح القضية السورية من حيّزها الثوري الوطني إلى الحيّز الدولي، ما يعني أن القضية السورية لم تعد بنظر المجتمع الدولي قضية عادلة لشعب انتفض من أجل مطالب مشروعة، بل أضحت قضية نزاع داخلي ( حرب أهلية) توجب مصالحة بين الأطراف المتنازعة برعاية دولية، وهذا ما ترجمته مشاركة روسيا وإيران في اللقاء في إيحاء واضح المقاصد يؤكد أن بشار الأسد هو جزء من الحل وليس أصلاً للمشكلة. وفي موازاة مؤتمر فيينا لا يمكن تجاهل الحرص الكبير الذي كانت تبديه إدارة أوباما للتوصل إلى اتفاق مع إيران بخصوص ملفها النووي، الامر الذي جعل القضية السورية بالنسبة إلى واشنطن مُلحقةً بالملف الإيراني الذي حظي بمقاربة أمريكية اعتمدت على مبدأ احتواء الشر الإيراني وتحجيمه بدلاً من التصادم معه أو الإجهاز عليه.
لم تكن الرؤية العربية، والخليجية على وجه الخصوص، بعيدة عما يرسمه اللاعبون الكبار للقضية السورية، بل يمكن التأكيد على أن التعاطي الإقليمي العربي مع ما يجري في سورية لم يكن ليبتعد – من حيث التصعيد أو المهادنة – مع الرؤية الأمريكية والتي لم تبد اعتراضاً على ما تقوم به روسيا، بل ربما وجدت في التدخل الروسي المحكم في سورية سبيلاً للتنصل من مسؤولياتها الأخلاقية حيال الشعب السوري، وهذا ما عبر عنه الوزير الأمريكي الأسبق ( جون كيري) أكثر من مرة حين كان يواجه مسؤولين في المعارضة السورية بقوله: (أذهبوا وتفاهموا مع روسيا)، وبناءً عليه، لم يكن (مؤتمر الرياض الأول – 8 – 10 كانون الأول 2015 ) سوى نتيجة لتفاهم وثيق بين روسيا والمملكة العربية السعودية في مسعى يحاول إيجاد مقاربة للقضية السورية تكون استمراراً لتفاهمات مؤتمر فيينا، مع التأكيد – بالطبع – على أن البيان الختامي لمؤتمر الرياض الأول كان قوياً وعالي السقف، وأكد بوضوح على رفضه لأي مشاركة للأسد في المرحلة الانتقالية، ويمكن الذهاب إلى أن الروس ربما لم يحققوا اختراقاً سياسياً ملموساً في الرياض1 ، بسبب تمسّك المعارضة السورية المجتمعة في الرياض بثوابت الثورة وتطلعات السوريين التي تُجمع على الرفض المطلق لمبدأ ( الأسد جزء من الحل)، ولكن ما لم يتحقق في (الرياض1) قد أنجزه التفاهم الروسي السعودي في مؤتمر ( الرياض2 – 22 – 24 تشرين الثاني 2017 ) الذي أفضى إلى الإطاحة بهيئة التفاوض السابقة وأنتج جسماً مفاوضاً جديداً تكون منصتا القاهرة وموسكو، القريبتان من الرؤية الروسية جزءأ منه، ولم تمض فترة طويلة على إنشاء هذا الجسم الجديد حتى بدا أكثر تفاعلاً ومرونة مع المسعى الروسي السعودي، ولعل أبرز علائم هذه المرونة آنذاك قبول هيئة التفاوض بالفكرة الروسية التي تبنّاها المبعوث السابق ستيفان ديمستورا، وأعني فكرة ( السلال الأربعة) التي قبلت بها هيئة التفاوض الجديدة في لقاء جنيف الرابع ( 23 – شباط 2017 )، ولعل هذا القبول كان المدخل الحقيقي إلى اختزال القرارات الأممية ذات الصلة بالعملية السياسية بسلة واحدة هي سلة الدستور التي لم تفض إلى أي نتيجة ملموسة على الرغم من مضي أكثر من ثلاث سنوات على تشكيلها.
تنطلق المملكة العربية السعودية في سياساتها الإقليمية من أولوياتها الأمنية بالدرجة الأولى، والتي كانت تنحو على الدوام إلى التنسيق المباشر مع الرؤية الأمنية الأمريكية في المنطقة، وتحديداً حيال إيران، وذلك لعدم وجود منظومة أمن قومي عربي ذات فاعلية في المنطقة، إلّا أن التغيرات الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا موازاة مع إصرار واشنطن على الاستمرار في منهجية الاحتواء حيال إيران، ربما دفع الرياض إلى فتح آفاق جديدة في علاقاتها مع المحاور الدولية، مدفوعةً بأمرين: سلامة أمنها الوطني والخروج من النفق اليمني الذي طال نزيفه دون نتائج ملموسة حتى الآن، وكذلك البحث عن مقاربات جديدة لمواجهة للخطر الإيراني، ولعل كلا الأمرين يوجب على الرياض فتح قنوات مباشرة مع إيران بغية الوصول إلى تفاهمات مرحلية على الأقل، وهذا ما بدت إرهاصاته بالفعل من خلال الاتفاق الذي هندسته روسيا وقامت الصين باحتضانه ورعايته، ولعله من الطبيعي في هذه الحال أن يستثمر كل طرف ما بحوزته من أوراق، وربما كان (نظام دمشق) هو الورقة المشتركة التي يحرص الجانبان، السعودي والإيراني على استثمارها ، ليس لأهميتها بذاتها، بل باعتبارها نقطة عبور إلى تفاهمات أخرى، ومن هنا يمكن الذهاب إلى أن تبادل إعادة فتح القنصليات أو السفارات بين دمشق والرياض، وكذلك احتمال دعوة رأس النظام في سورية إلى مؤتمر القمة العربية في أيار المقبل في الرياض، ما هي سوى تفاصيل وإجراءات جزئية تخدم مصالح الأطراف المتفاوضة، ويبقى التأكيد دوماً على أن تشخيص التعاطي العربي والدولي مع القضية السورية لا يعني إقراراً به أو موافقةً ضمنية عليه، ولكن هل جسّد هذا التعاطي القائم على مداراة الخطر الإيراني والتماس سبل التقية حياله، والعودة إلى تدوير نظام الإبادة الأسدي إخفاقاً عربياً في مواجهة السياسات الإيرانية العدوانية؟ الجواب نعم بكل تأكيد، ولعل الإخفاق الأشدّ مضاضةً هو الذي أفضى إلى أن تكون القضية السورية مجرّد ورقة تتلاعب بمصيرها سيرورة المصالح الدولية، ولا شكّ أنه إخفاق سوري أولاً وأخيراً.
المصدر: تلفزيون سوريا