شكّلت كارثة الزلزال التي ضربت أجزاء من شمال سورية وشمالها الغربي مناسبة لدول عربية عديدة لوضع “تحفّظاتها”، أو “حرجها” جانبًا، والاندفاع إلى التعامل مع النظام السوري. ورغم تسارع إيقاعه، أخيرا، إلا أن التطبيع العربي مع دمشق لا يمكن أن يمثل مفاجأة، فخطواته انطلقت فعليًا منذ اتفاق هامبورغ على هامش قمة العشرين بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في يوليو/ تموز 2017، وأدّى إلى وقف القتال في الجنوب السوري. وقد مهّد هذا الاتفاق للتسوية التي حصلت في درعا بعد ذلك بعام، برعاية روسية، ونصّت على تسليم المعارضة السورية سلاحها الثقيل. على الأثر، اتخذ الأردن قرارا بفتح المعبر الحدودي واستئناف العلاقات الاقتصادية مع سورية في أكتوبر/ تشرين الأول 2018. وبعد شهرين فقط (ديسمبر/ كانون الأول 2018) أعلنت الإمارات والبحرين إعادة فتح سفارتيهما في دمشق، وأصبحت عُمان أول دولة خليجية تعيد سفيرها إليها في أكتوبر/ تشرين الأول 2020. وفي يوليو/ تموز 2021 زار الملك عبد الله الثاني واشنطن، محاولا الحصول على إعفاءات من العقوبات الأميركية لاتفاق تزويد لبنان بالكهرباء والغاز (الإسرائيلي) عبر سورية.
إذا، عملية التطبيع العربي مع النظام السوري قائمة منذ سنوات، وقد بلغت ذروتها العام الماضي في محاولات إعادته إلى جامعة الدول العربية قبل قمة الجزائر، لكنها اصطدمت بفيتو سعودي -مصري، يشاع أنه جاء بسبب فشل النظام في تنفيذ تعهداتٍ قطعها للجانبين خلال الاتصالات الأمنية معهما للحدّ من نفوذ إيران وتقديم تنازلات سياسية تبرّر عودته إلى الجامعة. وزيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، دمشق أول من أمس (الاثنين) وتصريحات نظيره السعودي، فرحان بن صالح، قبل ذلك بخصوص “وجود مقاربة عربية جديدة” للتعامل مع النظام السوري، تعنيان أن هناك تغيرا في الموقفين المصري والسعودي، مؤدّاه أننا قد نشهد قرارا بعودة النظام الى جامعة الدول العربية خلال قمة الرياض العربية المزمع عقدها قبل نهاية مارس/ آذار الجاري. والواقع أن الموقف الرسمي العربي لم يكن قط منسجما مع ذاته، عندما وجد نفسه في موقع المؤيد لثورة الشعب السوري والمعارض لنظامه الذي يقمعه، فكيف يمكن لنظامٍ رسميٍّ عربي أن يؤيد ثورة على نفسه؟
كان حل هذا التناقض الصارخ يكمن في الموقف من إيران، فلولا الخوف من إيران وتغوّل نفوذها في المنطقة (قصة السيطرة على العواصم الأربع الشهيرة) لما اختلف موقف النظام الرسمي العربي من الثورة السورية عن موقفه من ثورة مصر مثلا. وهذا بالضبط ما يُقلق إيران من “هجمة” التطبيع العربي نحو دمشق، وما يخفيه سياسيوها يفضحه إعلامها الذي انتقد “تهافت المسؤولين العرب للقاء النظام الذي كانوا ينبذونه بالأمس ويحاولون إسقاطه”. وكانت إيران أبدت قبل ذلك توجّسا مماثلا من استبعادها من مسيرة تقاربٍ بين دمشق وأنقرة، انطلقت من موسكو في ديسمبر/ كانون الأول الماضي في اجتماع ضم وزراء دفاع روسيا وتركيا والنظام السوري. كما سجّلت “عتبا” على حليفها السوري، لأنه لم يستشرها بشأن الاجتماع، ولم يُطلعها على ما دار فيه.
من الواضح أن إيران تخشى من أن تصبح ثمنًا يترتّب على دمشق دفعه لتطبيع علاقاتها العربية والإقليمية، خصوصا أنه لم يعد لديها ما تقدّمه للنظام السوري، الذي صار على ما يبدو أكثر احتياجا لـ “أموال العرب” من حاجته إلى مليشيات طهران، خصوصا مع غرق موسكو في المستنقع الأوكراني، وتوجّه الغرب نحو خنق إيران بسبب دعمها روسيا في حرب أوكرانيا، وفشل الرهان على الصين. قد يفسّر هذا القلق زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، الأحياء التي ضربها الزلزال في حلب، وتضخيم إيران وحلفائها حجم المساعدات التي أرسلتها لإغاثة المنكوبين من أبنائها، وكأنها أرادت أن تذكّر بوجودها على الأرض وسط حملة التطبيع العربي مع دمشق، ليبقى السؤال: هل يستطيع المال العربي تحقيق ما عجزت عنه البنادق والصواريخ (إخراج إيران من سورية)؟ وهل يستطيع النظام حقًا أن يفكّ ارتباطه بإيران، وهل يرغب في ذلك أولًا، أم أنه يريد الاستمرار في استخدام علاقته بها أداة ضغطٍ على العرب؟ السؤال الأهم هو: هل التطبيع العربي مع النظام مشروطٌ أم أنه تسليمٌ وإقرارٌ بالفشل؟
المصدر: العربي الجديد