لا يظهر في الأجواء الخارجية المهتمة بالملف اللبناني تقدم في إنضاج حل للمعضلة اللبنانية أو تسوية تسمح بإنجاز الاستحقاقات المعلقة، وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية واختيار رئيس للحكومة. وإذا كانت فرنسا تسعى إلى عقد لقاءات إقليمية مخصصة لبحث الوضع في لبنان وتصر على تحقيق انجاز يُسجل لها، وتركيزها على التنسيق مع السعودية استناداً إلى ما ظهر في مؤتمر بغداد-2 في الأردن من إشارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى أهمية وجود تعاون صادق بين الدول لإخراج لبنان من أزمته، إلى جانب العمل لمعالجة الأزمة في العراق وسوريا. إلا أن المؤشرات لا تدل إلى إمكان إحداث اختراق في الستاتيكو القائم نظراً للتطورات السلبية في المنطقة والتوترات الناتجة من فشل المفاوضات النووية.
وبعيداً من الداخل اللبناني الذي يشهد اصطفافات خطيرة لها امتدادات خارجية وخلافات بين القوى السياسية والطائفية تزيد من عمق المأزق وتعجّل الانهيار، فإن الصورة التي تظهر في المنطقة ومن بينها لبنان، توحي بأن الأزمة قد تطول خصوصاً أن كل ما يحدث إضافة إلى المواقف المعلنة يؤكد أن حلّ الأزمة اللبنانية له مسار إقليمي ودولي، إذ لا يمكن للبنانيين والقوى التي تتحكم بأمورهم أن يتفقوا على الخروج من المأزق بسبب الصراع القائم على المحاصصة وموازين القوى، وهم الذين تسببوا بالأزمة الأشد خطورة في تاريخ لبنان. لكن المسار الإقليمي للحل لا يزال يواجه مشكلات حادة تعكسها التوترات القائمة والتصعيد الذي لا يقف عند حدود معينة.
وعلى الرغم من وجود مساعٍ خارجية للحل، إلا أن الملف اللبناني يحتاج إلى وقت طويل لإنضاح تسوية له، إذ ثمة أطراف لبنانية لها مرجعيات إقليمية خصوصاً “حزب الله” الذي ينظر إلى الحل اللبناني من وجهة إقليمية مرتبطة بمرجعيته الإيرانية. ولعل ما يواجه إنضاح الحل اللبناني خارجياً، هو غياب التقاطعات بين القوى الإقليمية وأيضاً التواصل في ما بينها، فالبيان الختامي لقمّة مؤتمر بغداد-2 لم يتضمن أي إشارة متعلقة بالملف اللبناني، على الرغم من الموقف الفرنسي والاتصالات التي تجريها باريس لتقريب وجهات النظر الإقليمية والدولية، خصوصاً مع السعوديين والإيرانيين، لتجهيز الأرضية المناسبة للتسوية إلا أن الأمور لا تزال تواجه تعقيدات خصوصاً بفعل الشروط الإيرانية في المنطقة.
لا حلحلة على المستوى الإقليمي للملف اللبناني، ولا يبدو أن هناك تحريكاً للاستحقاقات خصوصاً الرئاسة الأولى، وهو ما يُترجم لبنانياً بخلافات حادة وشروط ومواقف يختصرها “حزب الله” بأنه يريد رئيساً “لا يطعن المقاومة”. وفي التوتر الإقليمي والدولي الذي ينعكس على لبنان، تزداد الضغوط على إيران بعد فشل المفاوضات النووية ومعها المزيد من العقوبات الأميركية، فيما ظهرت الخلافات الأوروبية – الإيرانية إلى العلن، خصوصاً بعد الموقف من الداخل الإيراني وإدانة قمع الاحتجاجات. لكن الأبرز يبقى هو الانسداد في التفاوض لإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي كانت تريده إيران للخروج من عزلتها، إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن قطع الطريق عليها بإعلانه أن الاتفاق بات بحكم الميت ولا مؤشرات على إعادة إحيائه. هذا الوضع ينعكس على لبنان سلباً ويزيد من إمكان التصعيد والتوتر طالما أن لا تقاطعات أميركية – إيرانية حول مختلف الملفات، وإن كانت إيران مربكة في طريقة التعامل مع التطورات والمستجدات، وهو ما تعكسه تصريحات مسؤوليها حول الاستعداد للتفاوض مع السعودية، ومن ناحية أخرى الهجوم عليها والتصعيد أيضاً ضد الفرنسيين والأميركيين.
الحوار السعودي – الإيراني قد يهدّئ الأوضاع ويخفف من احتمالات التصعيد، لكن جولات الحوار السابقة لم تفتح على إمكان حل الخلافات حول ملفات المنطقة، باستثناء العراق الذي تقدم ملفه بصفقات أميركية – إيرانية، كانت لها امتدادات لبنانية تُرجمت باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. الهدف الإيراني هو محاولة رفع الحصار، بعد تراجع قدرة النظام الحاكم في رهانه على التصعيد من خلال أذرعه المسلحة في المنطقة وانشغاله بوضعه الداخلي. ولا يبدو أن هذا الحوار قد ينعكس انفراجاً في الداخل اللبناني على مستوى الاستحقاقات طالما أن هناك عدداً من المقررين الخارجيين في الملف لم يدلوا بدلوهم، فيما فرقاء الداخل غير منفتحين على التسويات، ولذا يبرز موقف “حزب الله”، الذي وإن كان يقدم صورة منفتحة على التسوية والحوار إلا أنه يضع فيتوات على أسماء مرشحة للرئاسة، منها اسم قائد الجيش اللبناني جوزف عون الذي يحظى بمباركة فرنسية وقطرية وأيضاً سعودية وأميركية وإن كان موقف الأخيرين غير معلن. ويصر الحزب على إيصال رئيس حليف للمقاومة. فإما هذا الرئيس أو لا رئيس … انطلاقاً من اعتباره أن أي رئيس يأتي بمباركة الأميركيين ورعايتهم سيخوض مواجهة مع محور الممانعة.
التوتر الإقليمي أيضاً كان واضحاً في الساحة السورية، من خلال الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع للإيرانيين و”حزب الله” في القنيطرة وعلى أطراف الجولان المحتل، وفي دمشق فضلاً عن التهديدات الإسرائيلية المستمرة مع بنيامين نتنياهو ضد التخصيب الإيراني، فيما أعلن الجيش الإسرائيلي إسقاط مسيّرة لـ”حزب الله” فوق الجليل. واللافت أن هذه التطورات والتصعيد يحصلان بعد اتفاق الترسيم، وهو ما يدل إلى احتمالات حدوث صدام قد يغير قواعد اللعبة وينعكس على الوضع اللبناني برمته.
كل هذه التطورات قد تنعكس تصعيداً وتوترات في لبنان ومنها في الجنوب اللبناني الذي شهد مقتل أحد عناصر قوات اليونيفل أخيراً، حيث الأنظار كلها تتجه إلى “حزب الله” وبيئته حول كل الملفات اللبنانية التي يتبين أنها مرتبطة ولها امتدادات إقليمية. لكن الأخطر أن لا مسار إقليمياً ودولياً لبلورة حل أو تسوية تعيد إحياء المؤسسات الدستورية في لبنان، وفي ظل عجز داخلي عن التواصل والحوار، فيما البلد كله يقف على حافة الهاوية …
المصدر: النهار العربي