النظام يقوم، خطوة خطوة، بالابتعاد عن دعامات تأييده الرئيسية: قاعدته الاجتماعية (أهل الولاء والأغلبية الصامتة في البلاد وقواته الأمنية ذاتها). إنه يحوّل، من خلال سياساته الاقتصادية والاجتماعية، الأزمة المعيشية العامة، في مناطق نفوذه، إلى مستوى أكثر خطورة على حاضنته بصورة عامة. فبعد ما يزيد عن أحد عشر عاماً من انطلاق الحركة الشعبية السورية تكشفت محدودية القاعدة الاجتماعية التي يرتكز إليها نظام الحكم، وحجم الخراب الذي أوقعه في الدولة السورية، حيث حوّلها إلى دولة فاشلة، ودولة مارقة تهدد أمن المنطقة والعالم من خلال تصديره للكبتاغون.
وفي المقابل يبدو أنّ الحامل الاجتماعي للثورة سيكون العامل الحاسم في سيرورتها وآفاقها المستقبلية، خاصة بعد أن لمست كتلة اللاجئين السوريين، التي يقترب عددها من عشرة ملايين، الفرق الكبير بين حياتهم في ظل استبداد النظام، طوال ستة عقود، وبين دول المواطنين الأحرار المتساويين في الحقوق والواجبات التي لجأوا إليها، مما ينطوي على اتساع الحامل الاجتماعي للتغيير القادم، أفقياً وعمودياً، خاصة بعد أن استطاع كسب فئات اجتماعية واسعة للحاجة إلى التغيير في أوساط حاضنة النظام.
وتكمن أهمية مؤشر انخراط مكونات وفئات جديدة في فعاليات التغيير المنشود، في إمكانية إعطاء الثورة هوامش حراك ضرورية وحيوية، تخرجها من وصف ” ثورة الريف “، أو ” ثورة المساجد “، أو ” ثورة الأحزمة العشوائية “، وهو الأمر الذي بقدر ما يعطيها القدرة على الاستمرار والتواصل، يمنحها أيضاً القدرة على تحقيق التمثيل لأكبر لفئات المجتمع ومكوناته، على طريق الحالة الوطنية الشاملة، التي ترتكز إلى استنهاض الشعب، ككتلة سياسية فاعلة، لها مطالب واضحة تخص الجميع وترتبط بالإطار الوطني الجامع وبالمشاركة السياسية لكل فئات المجتمع السوري.
إنّ الثورة السورية لا تقتصر على لحظة انفجار محددة بزمان ومكان معينين، لكنها مسار تصاعدي يمتد وفق زمنيته الخاصة ليشمل مناطق وأماكن جديدة، ضمن سيرورة التغيير القادمة. وما يبدو اليوم تلكؤاً في مناطق نفوذ النظام، ليس مستبعداً أن ينقلب في أية لحظة انخراطاً متسارعاً لها، ولنا في الانتقادات المتواترة في كل المناطق خير دليل على الكيفية التي قد تتسارع فيها الأحداث، من باب الحرية والكرامة والوطنية السورية الجامعة والتحرك السلمي.
وهكذا، فإنّ السوريين الجدد هم أبناء الحراك الشعبي، وغالبيتهم من الشباب، وقسم كبير منهم من المتعلمين، رجالاً ونساءً، الذين كانوا على هامش الحياة العامة بمناحيها وأنشطتها، حيث لا أنشطة ولا مشاركة سياسية، وإن حضرت فإنها أنشطة ومشاركات للتسبيح بحمد وشكر السلطة وحزبها، في وقت لا تتوافر فيه الفرصة لأنشطة من ألوان سياسية أخرى، كما لا تتوافر الفرصة لأنشطة عامة في إطار المجتمع المحلي أو منظمات المجتمع المدني ومنها الجمعيات التي تهتم بالتنمية وحقوق الإنسان وغيرها.
إنّ الطيف الشبابي أعاد السياسة إلى الفضاء السوري العام، بعد أن غابت لعقود، والحرية تعني له آفاقاً مفتوحة أرحب تحيل إلى سورية كمجال عمل، وإلى خبرات اجتماعية وسياسية واقتصادية مشتركة، أساسها الشعور بحصار السلطة وضآلة الفرص، وإلى قيم إنسانية عامة كالمساواة والاحترام. لقد أعلنها واضحة أنّ الوحدة الوطنية السورية المبنية على قاعدة احترام الخصوصيات، وتأمين الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لجميع المواطنين من دون أي استثناء، مثل هذه الوحدة الوطنية هي التي تعد الحاضنة الكبرى القادرة على جمع كل السوريين، بعيداً عن روحية الأحقاد، وعقلية الانتقام والإقصاء، وسياسة اعتماد الولاءات ما قبل الوطنية، المتناغمة مع النزعات الاستبدادية.
وهكذا، يبدو أنّ الحراك الشعبي السوري قد تجاوز مرحلة الخطر، بعد أن حقق الانتشار، وصنع الديمومة، وأفرز قياداته المجربة في ميدان التشاركية، وكشف تجار الحروب المتسلقين على جسده، وبات يملك الهوامش الضرورية لتحقيق الإنجازات. فالعامل الرئيسي في النهاية هو الشعب السوري، تصميمه على خوض معركة الحرية والكرامة إلى نهايتها.
نحن أمام ثورة وطنية تجمع فقراء المدن والأرياف إلى أبناء الطبقة الوسطى، للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية والتقاسم العادل للثروة. والحل في سورية اليوم هو في انخراط جميع مكونات المجتمع السوري في عملية التغيير، لإعادة بناء وتشكيل دولة الحق والقانون المدنية التي تضم كافة مكونات المجتمع دون استثناء ودون خوف أو قلق.
إنّ القراءة المتأنية تثبت نجاح الثورة في صراعها مع السلطة من خلال اكتسابها قطاعات واسعة من الشعب السوري وتفكيك الخطاب الرسمي للنظام، وعلى الصعيد الذاتي عبر بلورة رؤى سياسية واجتماعية لدى تيارات معارضة جديدة للمرحلة الانتقالية، ومرحلة ما بعد الاستبداد. وهي مقومات تدفعنا إلى الاعتقاد بأنه طالما حمت الثورة نفسها من خطر تجار الحروب المرتهنين لقوى خارجية، كما ظهر واضحاً مؤخراً في التظاهرات المعارضة للاقتتال بين تجار الحروب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإنّ ما اكتسبته من قوة وتنظيم وخبرة يكفيها لإكمال مشوارها اعتماداً على طاقتها الذاتية. ومهما حاولت السلطة المكابرة فإنّ الحقائق على الأرض راسخة، تؤكد أنّ مطلب التغيير يتمدد في الجغرافيا السورية كلها.
إن التعويل في الثورة السورية، يبقى على فعل الحراك والتظاهر والاشتباك المستمر الفكري مع سلطات الأمر الواقع، وعرقلة تمرير المشاريع الطائفية، ودعم المبادرات الوطنية داخل سورية وخارجها، وتنظيم السوريين أنفسهم، والوصول إلى أماكن صنع القرار في دول العالم، بما يدحض موت الثورة السورية.