لم تكن سلطة الاحتلال في العراق، ولا ميليشياتها المسلحة، ولا امريكا المحتلة، او وصيفتها إيران، ولا الكثير من الكتاب والمحللين السياسيين داخل العراق وخارجه، قد توقعوا حدوث ثورة شعبية بهذا الوزن وهذا العنفوان والشجاعة، ويقودها شباب في عمر الزهور، وتشترك فيها جميع فئات الشعب وتشمل معظم المدن العراقية. ثوار لا يطالبون بتوفير الماء والكهرباء او فرص عمل، كما كانت تطالب بها الانتفاضات السابقة، وانما يطالبون، بإسقاط عملية المحتل السياسية برمتها وعودة الوطن المنهوب لأصحابه. خاصة وان هذا الشعب قد تعرض على مدى عقود طويلة الى دمار وخراب ونكبات وحروب وحصار وتجويع وتجهيل واحتلال من أكبر قوة عسكرية همجية في العالم وهي امريكا، ومن أكبر قوة اقليمية تكن العداء للعراق وشعبه وتحمل حقدا دفينا عليه منذ أكثر من ثلاثة الاف سنة وهي إيران. بل وصل البعض الى حد السفاهة وسمح لنفسه بوصف شعب العراق بالميت، او شعب ممزق طائفي جاهل، واقام البعض الاخر جنازة ليشيعه الى مثواه الاخير. فليس غريبا والحالة هذه ان يفقد هؤلاء الاشرار صوابهم، ويختل توازنهم وتمس عقولهم، ويتخبطوا في قراراتهم. فهم فتارة يشنون حملات عسكرية ذات طابع همجي ووحشي ضد الثوار السلميين، وتارة اخرى يتوسلون الثوار بالعودة الى بيوتهم مقابل وعود وردية بالاستجابة الى مطالبهم، وتارة يحاولون تقزيم الثورة وشيطنتها والصاق التهم الباطلة بأبنائها.
لكن فشل جميع هذه المحاولات، دفع هؤلاء الاشرار الى التفكير بطرق اخرى. بدل رفع الراية البيضاء، حيث اجبروا عادل عبد المهدي على الاستقالة من رئاسة الحكومة، على الرغم من تمسكه بهذا المنصب بيديه وبأسنانه، وتكليف الدكتور محمد توفيق علاوي ثم عدنان الزرفي ليستقروا اخيرا وليس اخرا على تكليف مصطفى الكاظمي، وتقديمه للعراقي على انه الرئيس المنتظر، الذي ادخره القدر لإنقاذ العراق من محنته. لكن رجال الثورة أحبطوا هذه المحاولة واعتبروها عملية نصب واحتيال، وأعلنوا تمسكهم بمطالب الثورة، وفي المقدمة منها حل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة، تشرف عليها مفوضية نزيهة، ومراقبة اممية او جهات دولية محايدة. ومن دون ذلك، فان شعار نريد وطن يفقد جوهره ومعناه، وتذهب دماء الشهداء سدى.
مع ذلك لم يرفع هؤلاء الاشرار الراية البيضاء، بل وجدوا في قرار الثوار باخلاء ساحات التحرير لمنع انتشار وباء فيروس كورونا، وبقاء اعداد قليلة فيها، فرصة ذهبية لتنظيم خطة جديدة ذات صفحات عسكرية وسياسية واعلامية، هدفها قتل روح الثورة واطفاء جذوتها ونزع جذورها التي ترسخت في عقول العراقيين، ومن ثم اجبارهم على التخلي عن اهدافهم المعلنة والقبول بما يجود به هؤلاء الاشرار. ويبدو، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، ان مقتدى الصدر وتياره وعصاباته المسلحة، قد اخذ على عاتقه تنفيذ هذه المهمة المشينة نيابة عن باقي
الاجهزة القمعية وقوات مكافحة الشغب وحتى بقية المليشيات المسلحة، في محاولة منه لاستعادة مكانته الكبيرة، التي تزعزت داخل العملية السياسية وامام سيده الولي الفقيه علي خامنئي، بعد فشله في ركوب موجة الثورة، او تشويه سمعتها، او حرف مسيرتها بقوة السلاح. ولكي لا نطيل اكثر، فان مقتدى وتياره وكلابه قد بداوا مخطط الغدر بشن حملة اعلامية للنيل من الثورة وتوجيه التهم بالغة الاساءة لابنائها الاشاوس بوصفهم بابناء السفارات والمرتزقة والعملاء، والترويج لاكاذيب تحدثت عن دعم الدول الاجنبية لهذه الثورة واشراف خبراء امريكان وصهاينة على مسيرتها وعن تزويد الثوار باسلحة مختلفة لاستخدمامها في اليوم الموعود وغيرها من هذه الاتهامات الباطلة التي يعف اللسان عن ذكر بعضها الاخر.
لكن اخطر محاولات مقتدى قيامه بحملة دعائية الهدف منها تبرير الجريمة الكبرى التي ينوي تنفيذها، وذلك عبر اتهام قيادة الثورة بالتحضير لتحويل الثورة من سلمية الى مسلحة وتعمل تحت ادارة حكومة انقاذ وطني سيتم تشكيلها والاعلان عنها. ومن المؤسف ان يساهم بعض المتحمسين للثورة في ترويج هذه الاكذوبة ليصدر البعض الاخر بيانات تحت مسميات مختلفة، تخدم في نهاية المطاف مهمة مقتدى الغادرة. وعلى الرغم من مشروعية اية ثورة سلمية في ان تتحول الى ثورة مسلحة للدفاع عن نفسها، فان مثل هذا الامر لم يجر التفكير به من قبل الثوار، حيث ما زال الاصرار قائما على التمسك بسلمية الثورة مهما كلف ذلك من تضحيات جسام. وهذا لا يعني اطلاقا رفض الثوار لمبدأ حق الدفاع عن النفس بقوة السلاح. وانما يرفضون هذا التوجه في المرحلة الراهنة كي لا يمنحوا هؤلاء الاشرار مبررا لارتكاب جريمتهم الكبرى. وهذا ما يفسر هجمات مليشيات مقتدى بين آونة واخرى على جميع ساحات التحرير، حيث يعتبر ذلك تمهيدا لشن حرب ضروس لإنهاء الثورة.
بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فان ظهور داعش في هذا الوقت بالذات وقيامها بعمليات عسكرية وهجمات فعالة في مناطق متفرقة من العراق وتكبيد القوات العراقية او مليشيات الحشد الشعبي خسائر محدودة، لم يكن مصادفة، وانما يعزز صحة مخطط انهاء الثورة عسكريا، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار غياب داعش وعودتها يرتبطان على الدوام بحاجة الحكومة العراقية، وخاصة عندما تعاني من مازق يصعب عليها الخروج منه بسهولة. الامر الذي يمنحها المبرر لإسكات اي احتجاج ضدها وليس انتفاضة او ثورة واعدة، تحت شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة. وهذا ما يفسر تضخيم وسائل الاعلام الحكومية لعمليات داعش في الايام الاخيرة، وابراز خطورتها على العراق عموما، وعلى الاماكن المقدسة خصوصا، كما حدث في هجوم داعش على محيط مدينة سامراء التي تضم مرقد الامامين العسكريين عليهما السلام، في اشارة الى ان تكون النجف وكربلاء ضمن اهداف داعش. ولا نستبعد دخول المرجعية الدينية على هذا الخط واصدار فتوى جديدة او طلب من الثوار بوقف ثورتهم والالتحاق بالقوات العراقية للدفاع عن الوطن والاماكن المقدسة.
لا نجادل في ان الثورة تتعرض لامتحان صعب. فقوة السلاح تحصد ابناء الثورة دون رحمة، والتحايل عليها بالوسائل السياسية تجري على قدم وساق والمؤامرات ضدها لم تتوقف ووسائل الخداع والتضليل مستمرة، لكن بالمقابل فان قامة الثورة اصبحت شامخة وعودها يشتد كما الفولاذ، وقيادتها اكتسبت خبرات واسعة ورؤية ثاقبة مقرونة بإصرار راسخ ومبدئي على رفض الهزيمة او حتى التراجع. وبالتالي فهي اصبحت أكثر استعدادا من اي وقت لإفشال اي فعل عسكري ضدها او فعل سياسي ينطوي على الخداع والتضليل، ناهيك عن ان عموم العراقيين قد ادركوا بان لا طريق للخلاص سوى الثورة، الامر الذي سيؤدي حتما الى تشجيع جميع العراقيين على الدخول في رحاب الثورة، ويدفع جميع النخب الوطنية والكفاءات واصحاب الخبرات لان تتقدم الصفوف والاخذ بيد الثورة والمساهمة في توضيح اهدافها والدفاع عنها واحباط كل محاولة للنيل منها او تشويهها.
على هذا الاساس لا اجازف اذا قلت بان كل هذه المحاولات الغادرة لن تجدي نفعا. فالموجة الثالثة من الثورة اتية لا ريب فيها، وبقوة اشد وزخم أكبر ومشاركة اوسع قد تتعدى الملايين. خاصة وان أطراف عملية الاحتلال السياسية توفر، مع مرور الايام، المبررات الكافية جدا لانتشار الافكار الثورية بسبب سقوطها السياسي والاخلاقي المدوي، واصرارها على مواصلة العبث بشؤون البلاد والعباد، وعدم الكف عن ارتكاب الجرائم والسرقات من جهة، واصرار هذه الاحزاب الحاكمة على رفض تشكيل اية حكومة بنوايا من رئيسها رائحة الاصلاح الذي يمس مكسبا من مكاسبها، او يهز ركنا من اركانها من جهة اخرى. بمعنى اخر فان استجابة هؤلاء الاشرار لمطالب الثوار تعني بالضرورة هدم كيانهم الفاسد الذي اقاموه على المحاصصة الطائفية والعرقية، ودستور ملغوم وانتخابات مزورة وفساد مالي واداري وسرقة ورشوة الخ. وهذه بمجموعها هي الشروط التي لا غنى عنها لمواصلة عمليات النهب والعبث بشؤون البلاد والعباد.
خلاصة القول، وكما أكدنا سابقا، فان الثوار قد وضعوا ايديهم على المعادلة وعلى طريقة حلها، التي تؤكد بانه إذا لم يتم القضاء على السبب فلا امل في القضاء على نتائجه، فالتدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان سببه الاحتلال وحكوماته المتعاقبة. اما مقتدى الصدر وحلفاؤه من المليشيات المسلحة، فانه لن ينجو من عقاب العراقيين على الجرائم النكراء التي ارتكبها ضد الثوار السلميين وستبقى دماء الشهداء في رقبته تقض مضجعه حتى يوم الحساب العسير.
المصدر: الكاردينيا