أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري (3 – 3)

د-  عبدالله تركماني

  3 – دحض تخوّفات بعض الإسلاميين

إنّ الكثيرين لا يدركون ماهية العلمانية ومدى أهميتها من أجل بناء دولة سورية ديمقراطية حديثة على مستوى تحديات العصر، ولربما السبب في رفضهم العلمانية هو انهم يخشون أن تكون مرادفاً لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية ” من شانها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له. وبالتالي فإنّ العلمانية من شأنها أن تقوّي بُعد القناعة الفردية الحرة من العقيدة الدينية، وذلك من خلال فك الارتباط بين الدين والسلطة. بل أنّ العلمانية هي، في جوهرها، ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم الصحيح للدين، على الأقل في جانب المعاملات والقيم العامة التي يحملها ” (22).

لقد تصدى جورج طرابيشي للذين ينكرون على العلمانية ضرورتها في المجتمعات الإسلامية، أو الذين يحصرون مطلبها بالأقليات غير الإسلامية، فيحسم بأنّ العلمانية إشكالية إسلامية – إسلامية أولاً وقبل كل شيء ” يتفق خصوم العلمانية في الساحة الثقافية المعاصرة، سواء أكانوا من دعاة الحداثة أم من دعاة القدامة، على اعتبارها نموذجاً لإشكالية مستوردة. فالعلمانية في رأيهم رأت النور في الغرب، وتحديداً الغرب المسيحي… جرى ازدراع تلك الإشكالية الغربية في جسم الثقافة العربية الحديثة بدون أن تكون بها إليها حاجة حقيقية، وبدون أن تلبّي طلباً فعلياً – أو متوَهماً أنه كذلك – إلاّ للجماعة الأقلوية التي تطوعت لاستيرادها: نصارى الشرق ” (23).

وإذا كانت العلمانية في وجه من وجوهها ” فلسفة وآلية لتسوية العلاقات، لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد، فهذا ما يجعلها أكثر من ضرورة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية القائمة على تعدديات طائفية ومذهبية، مما يجعل منها قضية إسلامية – إسلامية قبل أن تكون قضية مسيحية – إسلامية. لعلَّ الصراعات المذهبية والطائفية المندلعة اليوم حروباً أهلية بين الطوائف الإسلامية خير حافز لاعتبار العلمانية أحد الطرق المؤدية إلى الحد من هذه الحروب ” (24).

وفي استعادة للمسار الذي سلكته العلمانية في المسيحية يشير طرابيشي إلى أنه ” لن يكون أصعب بكثير على الإسلام من المسيحية دخول العلمنة. ففي المسيحية ليست بذور العلمانية هي التي تطورت إلى شجرة وغابة، بل العكس: عندما اكتملت القطيعة المعرفية التي حققها الغرب مع نفسه وتعلمن، عادت المسيحية إلى تاريخها، لتكتشف هذا التعلمن وتبرره. وأعتقد أنّ الإسلام سيدخل هذه المرحلة، وسيعود إلى ماضيه فيما بعد، ليكتشف تلك البذور ويمنحها تسمية جديدة. وهذا الأمر ضروري للإسلام نفسه، وسيساعده على أن يتحول من إسلام سياسي إلى إسلام روحي، تماماً كما حصل في المسيحية. والإسلام هو أحوج الأديان اليوم إلى الفصل فيه بين الزمني والروحي… ولئن كان الإسلام ” المسيّس ” و” المؤدلج ” يشنُّ حرباً شعواء على العلمانية، فما ذلك إلاّ لأنه يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة، بل كذلك لأنّ العلمانية، بما يترتب عليها من فصل بين الروحي والزمني، حتى على الصعيد الديني المحض، من شأنها أن تساعد الإسلام على فكِّ نفسه من أسر ” التسيس ” و” الأدلجة ” وعلى استرداد وضعيته الطبيعية كوجدان جمعي شبه فطري ” (25).

وإذا ما انتقلنا إلى التاريخ الإسلامي الفعلي، سوف نجد ” أنّ المناظرات الثرية والسجالية التي كانت تجري في بلاط السلاطين المسلمين، حيث كانوا يحثّون السلطان على الاقتناع بأنّ الدين وازع أخلاقي اجتماعي، حيث تغيب القدرة على السيطرة والقسر “. حتى أنّ القاضي والفقيه الماوردي، صاحب ” الأحكام السلطانية “، ميّز العلاقة بين الدين، باعتباره وازعاً وأخلاقاً عامة، والسلطة السياسية. بل أنه ” أدرك الفرق بين التعليل العقلي والإيمان الديني المؤسس للأخلاق “، وهو ” فهم قريب مما توصل إليه كانْت من فرق بين تديّن النخبة في حدود العقل وتديّن العامة ” (26).

إنّ الفصل والتمايز باعتبارهما عملية علمنة، إنما هما تبسيط يسقط على الماضي نموذجاً فكرياً منطلقاً من موقف علماني في الحاضر، بينما ” الصيرورة هي تمايز ناشئ تاريخياً، وقد ينتهي هذا التمايز إلى وعي بالانفصال بين الدين والسياسة، أو بين الدولة والمؤسسات الدينية. وهذا قد يقود إلى نوع من الرابط التعاقدي، أو التواطؤ بفوائد متبادلة. وغالباً ما تسبق هذه المرحلة، من إخضاع الدين للدولة، مرحلة تحييد الدولة في الشأن الديني تاريخياً ” (27).

وهكذا، تفترض العلمنة أنّ ثمة صيرورة تاريخية تؤدي إلى انحسار الدين تدريجياً عن قطاعات مجتمعية واسعة، يتمثل أهمها بالنسبة إلى مصطلح العلمانية في ” نشوء منطق الدولة الذي يتغلب على الاعتبارات الدينية، حيث يصبح الحكم السياسي على الأمور نابعاً من مصالح الناس في الدنيا. وما يمكن تشريعه من قوانين، قبل علمنة الوعي وفرضه من الدولة، هو منع الدولة، أو أي قوة سياسية من فرض الدين بواسطة الدولة، أو منع فرض رأي سياسي لحركة دينية بواسطة الدولة، أو فرضه كأنه رأي مقدس تستدعي مخالفته تكفير المخالف ” (28).

4 – دروس بعض التجارب الإسلامية ذات النزعة العلمانية

شغلت إشكالية الدولة والمواطنة علماء السياسة، وعكفت النخب الفكرية والسياسية، منذ سنوات، على دراسة الأطروحات ذات المرجعية الإسلامية، خاصة التجارب ذات النزعات العلمانية (حزب العدالة والتنمية في تركيا، حركة النهضة التونسية، حزب العدالة والتنمية المغربي). ولا شك في أنّ نشوء تيار إسلامي مدني، يؤمن بفصل الدين عن الدولة، وبدعم الدولة الوطنية الحديثة التي ترعى كل الأديان وتصون مقدساتها، وتضمن حقوق مواطنيها من دون استثناء، هو أمر بالغ الأهمية في زماننا الصعب، حيث نلاحظ ارتكاسة واضحة عن القيم الحداثية التي دعا إليها النهضويون العرب في القرن التاسع عشر.

وفي الواقع يمكن القول في السياق الإسلامي ” إنّ التمايز بين الدين والدولة، بمعنى إدراك متطلبات الدولة العملية التي لا تقتصر على كون الدولة أداة بيد الدين، قد بدأ مع الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب. لكنّ الخليفة الثالث عثمان بن عفان هو الذي وعى هذه الحقيقة، حقيقة تشكّل الدولة، بما في ذلك استنادها إلى عصبيات أخرى غير العصبية الدينية “. وفي الدولة الأموية ” انتصر منطق السياسة والسلطة على حماسة الخلافة الدينية “، وأنّ خضوع الدين للسياسة ” بدأ عملياً مع تحوّل الدولة إلى مُلك عضوض يورّث من الأب إلى ابنه ” (29).

وحول إمكانية انسجام الإسلام مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية، أكد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم ” إنّ الإسلام التاريخي العملي والحياتي قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم فيما بعد مع الدولة الصناعية الحديثة، لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى نظام مثالي مغلق، يعني فقط مبادئ معينة، فهذا لا ينسجم إلا مع نفسه” (30).

فمع حزب ” العدالة والتنمية ” التركي نكاد لا نميّز فيه شيئاً مخالفاً لصفة الحزب العلماني، فبرنامجه برنامج انتخابي سياسي صرف لا وجود لمسحة دينية فيه، وهو يعلن التزامه بالتوجهات العلمانية للدولة التركية، ويفصل الدين عن السياسة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع، حيث نرى مشروعاً تركياً يحاول فيه نظام علماني أن يستوعب المكوّن الديني في المجتمع ويدخله في معادلة النظام السياسي. وفيما يتعلق بالأنموذج التركي يرى العظم ” إنه لا يمكن تطبيقه في العالم الإسلامي كما هو، لكن يمكن الاستفادة والتعلّم منه، لأنّ النموذج التركي له خصوصيته، وتركيا هي البلد الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين أمرين: تاريخ طويل من العلمانية المتشددة، وفي الوقت نفسه أنتجت هذه العلمانية حزباً إسلامياً ديمقراطياً حقيقياً قادراً على استلام السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة لا غبار عليها “. وأبدى اعتقاده بأنّ هذا النوع من الإسلام لن يفرّط للحظة أو يتلاعب بمكتسبات هائلة ومنجزات عصرية ونوعية مثل (31): المجتمع المدني التركي المتطور والنامي بسرعة كبيرة بمنظماته وتياراته وقواعد تعامله وقوانينه الضابطة، المستوى المتقدم الذي بلغه في ممارسة ديمقراطية المواطن وتطبيق إجراءاتها بحدود 60 إلى 70% لا أكثر، بدلًا من ديمقراطية المذاهب والطوائف والعشائر وما إليه كما هو معروف جيدًا بالنسبة لنا “. إلى أن يستنتج أنّ لحظة وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة ديمقراطيًا وسلميًا ” شكلت لحظة النضج للتجربة التركية مع الجمهورية الكمالية والدولة العلمانية مع الآليات الديمقراطية، أي لحظة نضج للشعب التركي نفسه ولقواه وأحزابه العلمانية من ناحية، ولإسلامه السياسي من الناحية الثانية.. أي تثبيت الجمهورية ومؤسساتها وقيمها، تثبيت فصل السلطات، تثبيت استقلال القضاء، تثبيت فكرة المواطنة وتوطيد قيمها، تثبيت حقوق المواطن والحريات العامة المعروفة، تثبيت فكرة التداول السلمي للسلطة على أوسع نطاق ” (32).

أما حركة النهضة التونسية، التي أصبحت شريكاً أساسياً في عملية الانتقال الديمقراطي، لا تردد مفاهيم الشورى والإمارة الإسلامية والطاعة في خطاباتها السياسية والإعلامية، وإنما رسالتها تقوم على أنها ” حركة مدنية ديمقراطية حداثية لا تؤمن بحكم الفرد ولا بعصمته، وإنما مشروعها في الحكم مشروع جماعي لا ترى نفسها إلا طرفاً فيه كغيرها من الأطراف. كما أنها لا تشجع على الاستقطاب الأيديولوجي، وهي تعمل سياسياً بمنطق وفاقي، وتبحث عن أوسع ائتلاف ممكن لدعم الانتقال الديمقراطي في تونس ” (33).

وعشية المؤتمر العاشر للحركة، في 20 أيار/مايو 2016، صرّح زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي لصحيفة ” لوموند ” الفرنسية بقوله ” لا نعرّف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي، بل نحن حزب سياسي ديمقراطي ومدني، له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية “. وأكد على ” أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي “. وتكمن أهمية هذا التحوّل في اختيار الحركة التموضع داخل المشهد السياسي، والإسهام فيه بصفتها الحزبية وبمقترحاتها البرنامجية، لا بصفتها الدينية، أو أعمالها الدعوية.

وفي قراءة للدور الإيجابي الذي لعبته حركة النهضة في مسارات الثورة التونسية، يمكن القول إنّ إصدار وثيقة دستورية حداثية، في 17 كانون الثاني/يناير 2014، يمثل مظهرًا من مظاهر هذا الدور، حيث ورد في الفصل السادس (حرية المعتقد) ” الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية المقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. يحجّر التكفير والتحريض على العنف “.

 وفي البرنامج الانتخابي لحزب ” العدالة والتنمية ” المغربي، للانتخابات التشريعية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2016، فقد ورد في الفصل الأول ” مرجعيتنا المشتركة ومنهجنا في الإصلاح ” ما يلي ” إنّ مضمون ومفهوم كون حزب العدالة والتنمية حزباً سياسياً بمرجعية إسلامية وليس حزباً دينياً يحتكر الدين. يعني أولاً تمييزه بين المجال الدعوي والمجال السياسي.. وأنه يشتغل في المجال السياسي بأدوات الفعل السياسي “. كما أكد ” إنّ تبنّي الحزب للمرجعية الإسلامية لا يعني الانغلاق عليها والقطيعة مع المرجعيات الإنسانية “.

 وهكذا، يبقى التحدي الأساسي المطروح على الجماعات الإسلامية هو القدرة على إدارة الحقل الديني في اتجاهات ثلاثة: أولها، حيادية الدولة إزاء تعددية تأويلات النص المرجعي المقدس، بدلاً من فرض سقف تأويلي له. وثانيها، الحفاظ على التنوّع الديني في البلدان التي تضم مكوّنات غير مسلمة، ما يقتضي تكريس فكرة المواطنة المتساوية. وثالثها، النأي بالمسألة الدينية عن صراعات الشرعية السياسية والتجاذبات الأيديولوجية، وتحويلها إلى سياج معياري ضامن للقيم المدنية المشتركة (الديانة المدنية بلغة جان جاك روسو).

خاتمة

تتواصل عملية التمفصل بين الدين والدولة لمصلحة الدولة، ولمصلحة السياسة، بحيث تبدأ العلمنة بتحوّل الدولة إلى العنصر الأقوى في مركّب دين/دولة. خاصة بعد أن انتقلت الوظيفة المتعلقة بالخير العام إلى الدولة، التي تقيم سلطان الله على الأرض.

وفي الواقع لا يكفي التمييز بين المجالين الديني والدنيوي لفهم فعل الدينامية الناجمة عن تمايزهما في المجتمعات، بل سوف يكون ضرورياً أن نميّز بين أنماط التدين والفئات الاجتماعية، وأنواع الدولة، ودرجة تطور المجتمعات.

هوامش

22 – د. عبدالله تركماني، العلمانية المؤمنة ضمانة للتقدم العربي، المرجع السابق.

 23 – جورج طرابيشي، هرطقات 2/عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، المرجع السابق، ص 9.

24 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 41.

25 – جورج طرابيشي، هرطقات 2/عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، المرجع السابق، ص 10.

26 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص ص 263 – 264.

27- د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 424.

28 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 62.

29 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص  432 و426.

30 – حوار جورج طرابيشي مع موقع ” الحوار اليوم “، 8 أيار/مايو 2012.

رابط الحوار: http://www.alhiwartoday.net/node/4288

31 – حوار حسن سلمان مع د. صادق جلال العظم، ميدل ايست اونلاين – 25 أيلول/سبتمبر2007.

32 – حوار حسن سلمان مع د. صادق جلال العظم، المرجع السابق.

33 – وحدة دراسة السياسات، الموقع الإلكتروني لـ ” مركز حرمون للدراسات المعاصرة “، هل يمكن للإسلام السياسي أن يتجه نحو بناء الدولة الوطنية؟ حركة النهضة التونسية نموذجًا، 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى