فرصة جديدة في صناعة الملوك لأكراد العراق

بلال وهاب

في الوقت الذي تتراجع فيه الميليشيات، على الولايات المتحدة الاعتماد بصورة أكثر على القادة الأكراد والعراقيين لإيجاد هدف مشترك يتمثل بمواجهة التصرفات المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها الجماعات الموالية لإيران.

فور اتضاح صورة الانتخابات البرلمانية التي شهدها العراق في تشرين الأول/أكتوبر، تَبيَّن أن الفصائل السياسية التي تمثل الميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران خسرت الكثير من المقاعد وفقدت مكانتها. ومع ذلك، حتى عندما وصف “مجلس الأمن الدولي” عملية التصويت بأنها “سليمة من الناحية الفنية”، شككت هذه الميليشيات في النتيجة وحاولت إلغاء الانتخابات والتخلص من رئيس الوزراء الذي أشرف عليها – وبالمعنى الحرفي للكلمة في الحالة الأخيرة، من خلال إرسال طائرات مسيّرة محملة بالقنابل لمهاجمة مكان إقامته. ولمزيد من صرف الانتباه عن الخسارة التي منيت بها، ركزت الميليشيات مجدداً على الوحش الأسود، وهو: وجود القوات العسكرية الأمريكية في «إقليم كردستان» وفي العراق على نطاق أوسع، والتي من المتوقع أن تتحول مهمتها من القتال إلى التدريب في نهاية هذا العام.

وفي غضون ذلك، سعى الفائز الأكبر في الانتخابات، مقتدى الصدر، إلى الهيمنة على السياسة الشيعية وتشكيل “حكومة أغلبية”، داعياً الميليشيات إلى نزع سلاحها إذا أرادت الانضمام إليها. وتمّ تأكيد نتائج التصويت في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، لذا سوف تتسارع الآن وتيرة المفاوضات لتشكيل الحكومة الجديدة. وبالنظر إلى النزعة العامة الحالية المناهضة للميليشيات، فأمام القادة الأكراد فرصة لأن يصبحوا شركاء وليس مجرد مشاركين في الحكومة المقبلة إذا وقفوا بحزم ودعموا الصدر. ويُعتبر وجود جبهة سياسية وعسكرية كردية موحدة أساسياً للحفاظ على الزخم ضد ما يسمى بفصائل “المقاومة”، والتي تشكل في نهاية المطاف أكبر تهديد لاستقرار «إقليم كردستان» واقتصاده.

الظلال الكثيفة للميليشيات تصل إلى كردستان

على الرغم من أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يزال يمثل تهديداً في العراق، إلا أن الميليشيات الموالية لإيران المنضوية تحت راية “المقاومة” أصبحت تشكل التحدي الاستراتيجي الأكثر إلحاحاً في البلاد. وبخلاف وضع تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا يوجد تحالف دولي ضد الميليشيات. وبالتالي، يجب أن يكون العلاج من داخل العراق.

وكما حصل في الماضي، سعت «حكومة إقليم كردستان» إلى عزل نفسها عن الاضطرابات التي شهدتها بقية أنحاء البلاد. لكن المطارات والمراكز الحضرية الخاضعة لسيطرتها تعرضت لما لا يقل عن أحد عشر هجوماً منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2019، حيث تبنّت فروع الميليشيات التي تندرج تحت راية «قوات الحشد الشعبي» التابعة للحكومة الاتحادية العراقية بعض هذه الهجمات. وحتى تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يتمكن من إحداث مثل هذه الانتهاكات العميقة في «إقليم كردستان».

وفي النهاية، تطمح الميليشيات المدعومة من إيران إلى أن تصبح دولة داخل دولة، كما أن عزل العراق إقليمياً ودولياً أساسي لتحقيق هذا الهدف. فمن خلال مهاجمة المواقع الإستراتيجية لـ «حكومة إقليم كردستان» مثل مطاري أربيل وحرير، تسعى الميليشيات إلى حرمان الولايات المتحدة من خيار إيجاد حل بديل قريب إذا طُلب من قواتها مغادرة العراق الاتحادي. كذلك، تُعدّ هذه الضربات وسيلة لتحذير الأحزاب الكردية من عدم الاضطلاع بدور صانعة الملوك مع تعمُّق الانقسامات داخل المعسكر الشيعي.

المحور المحتمل لإيران؟

مما أثار استياء الميليشيات، أن طهران هنأت العراق على إجرائه انتخابات ناجحة وأدانت محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي – وهي إشارة محتملة إلى أن الخسارة السياسية للميليشيات لا تعني بالضرورة خسارة إيران. وبالفعل، عمدت الجمهورية الإسلامية إلى تنويع نفوذها في العراق، وقد تصب بعض التطورات السياسية في مصلحتها. على سبيل المثال، يمكن للمكاسب التي حققها حليف إيران ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي أن تعوّض خسائر أحزاب “المقاومة”، في حين أن الميليشيات التي ضعفت قد تصبح أكثر اعتماداً (وبالتالي تدين بالفضل) حتى لطهران رغم استيائها من الخطاب الذي أصدرته بعد الانتخابات.

وفي الوقت الحالي، وضع المسؤولون الإيرانيون أنظارهم على عملية تشكيل الحكومة العراقية التي تكتسي أهمية كبيرة. وبينما يتنافس الصدر وخصومه على المحاولة الأولى لتسمية رئيس الوزراء المقبل، حذر قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني الكتل الكردية والسنية من الانحياز لأي طرف في هذه  المنافسة الشيعية الداخلية. وربما يقلق الجنرال الإيراني من إطالة أمد الاقتتال الداخلي، إلا أنه أبلغ أيضاً الأكراد بأنه من الضروري أن لا ينتظروا للمحور الشيعي إلى أجل غير مسمى.

وهذا لا يعني أن على القادة الأكراد الاستخفاف بكلمات طهران أو اتِّباع أوامر قاآني. ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى أن لديهم فرصة لممارسة بعض النفوذ في العراق وسط الخطوط الحمراء الإيرانية المتذبذبة. وفي هذه المرحلة، قد تعتقد طهران أن دعم الفصائل السياسية من غير الميليشيات في دولة عراقية ضعيفة بل مستقرة يخدم مصالحها بشكل أفضل. فالبدائل الماثلة أمامها ضئيلة – فقد خسرت إيران تأييد الشارع الشيعي ورجال الدين الشيعة بسبب شراسة ميليشياتها الوكيلة، والتي بدورها أيقظت القومية العراقية.

خيارات «حكومة إقليم كردستان» وسط النطاق الترددي المحدود

إذا كانت الأحزاب الكردية تهدف إلى الانضمام إلى الفصيل العراقي الأكثر التزاماً بإنهاء إفلات الميليشيات من العقاب، فإن الصدر هو أفضل خيار لها في الوقت الحالي. وعلى غرار «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في «حكومة الإقليم»، يحافظ فصيل الصدر على مستوى عال من السلطة المركزية والاستقلال الذاتي في المنطقة الواقعة تحت سيطرته. وفي المقابل، تحجم الأحزاب السنية بشكل مفهوم عن مواجهة الميليشيات التي تسير دوريات في مجمعاتها السكنية – على الرغم من أنها ستكون على الأرجح أكثر استعداداً لاتخاذ إجراءات سياسية إذا وجد الصدر والأكراد وحدة الهدف ضد “المقاومة”. وقد فشل المسؤولون الأكراد في التوصل إلى اتفاق ائتلافي مع الصدر قبل الانتخابات، ويبدو أن الجانبين يفضلان التفاوض بعد تأمين مقاعدهما في مجلس النواب.

ويقيناً، أن الصدر لا يخلو من المخاطر بالنسبة لـ «حكومة إقليم كردستان». فبرنامجه القائم على تأسيس دولة قوية (سواء تمكن من تحقيق ذلك أم لا) يميل إلى إثارة حالة اهتياج لدى الأكراد وتذكيرهم بسيناريوهات سابقة. ومع ذلك، فقد تبيّن أن عراقاً ضعيفاً يحمل مخاطر موازية لهم، كما أثبت تنظيم «الدولة الإسلامية» والميليشيات. ولضمان أمن الأراضي المتنازع عليها الواقعة بين «حكومة إقليم كردستان» والعراق الاتحادي، تفضل “قوات البيشمركة” التعامل مع قوات الأمن العراقية النظامية على متاهة الميليشيات في ظل «قوات الحشد الشعبي».

ومثلها مثل الكثير من الطبقة السياسية في العراق، اعتقدت «حكومة إقليم كردستان» سابقاً أن بإمكانها إرضاء الميليشيات وراعيها الإيراني. غير أن هذه الفرضية كانت خاطئة. فمنذ انتخابات عام 2018، حافظ مسؤولو الميليشيات في الحكومة على تخفيضات ميزانية «حكومة إقليم كردستان» التي فرضها المالكي في عام 2014، في حين شنت جماعاتهم المسلحة مراراً هجمات على كردستان بالصواريخ والطائرات بدون طيار.

إن ضرورة اتخاذ قادة «حكومة إقليم كردستان» الخيار الصعب وتولي دور صانعي الملوك أمر واضح، لكن هل هم على استعداد للقيام بذلك؟ قد يبدو وضع خلافاتهم جانباً والمخاطرة بمواجهة الفصائل المتحالفة مع إيران أمراً لا يمكن تصوره في الوقت الحالي، ولكن ذلك قد يتحقق إذا أدركوا المخاطر طويلة المدى. ومن غير المؤكد بشكل متزايد مَنْ يتحدث باسم «حكومة إقليم كردستان»، حيث أن سلسلة القيادة بين مؤسسات الحكومة الإقليمية والشخصيات السياسية النافذة والقادة العسكريين أصبحت غير واضحة بشكل متزايد. ولكن بدلاً من الاستمرار في الخلاف حول هذا الموضوع، يجدر بالأحزاب الكردية تمكين الرئاسة العراقية، التي تُعدّ أبرز المناصب التي حققتها في الحكومة الاتحادية. وإلا فإنها تخاطر بمواجهة عدة تحديات، بما في ذلك احتجاجات شعبية، وهجرة جماعية، وهجمات سافرة بطائرات بدون طيار، وتفاقم المشاكل الاقتصادية، ومحاولات تنظيم «الدولة الإسلامية» استغلال الثغرة الأمنية في الأراضي المتنازع عليها. وفي أعقاب انتخابات تشرين الأول/أكتوبر، أمام الأكراد فرصة لإيجاد شركاء اتحاديين قادرين على التخفيف من بعض هذه التحديات.

الدور الأمريكي: عدم تضييع أزمة مفيدة

بعد أن تخلى الشعب العراقي عن الميليشيات وتجاهلتها إيران، تسعى هذه الجماعات حالياً إلى جعل البلاد رهينة من خلال تهديدات بوقوع حرب أهلية وتجدد الهجمات على غزاة وهميين. وعلى الرغم من أن فرص حفاظها على نفوذها الهائل ضئيلة، إلا أن هذه الفرص قد تزداد مجدداً إذا لم يتم التحرك لمنعها.

ولحماية المصالح الأمريكية، على واشنطن أن تواصل قيادة الدعم الدولي لسيادة العراق وقواته الأمنية في وقت تسعى فيه البلاد إلى إبعاد تنظيم «الدولة الإسلامية» والميليشيات المدعومة من إيران. يجب أن يشمل هذا الدعم المتجدد «حكومة إقليم كردستان» و”قوات البيشمركة” التابعة لها.

أما على الصعيد السياسي، فالعراق هو واحد من دولتين فقط في الشرق الأوسط تمت دعوتهما للمشاركة في “قمة الرئيس بايدن حول الديمقراطية” هذا الشهر، لذا فإن حماية نتيجة الانتخابات يجب أن تكون أولوية فورية. وبينما يتفاوض الفائزون حول ائتلافات محتملة، يجب على واشنطن أن تستمر في تركيزها على إيجاد الظروف المناسبة لتشكيل حكومة تكون مستعدة للتعامل معها – مما يعني حث بغداد على منع الأفراد الخاضعين للعقوبات من أن يصبحوا وزراء. وبالمثل، على واشنطن أن لا تشير إلى هوية رئيس الوزراء القادم الذي تفضله بل ما هو متوقع منه.

ومع ذلك، على الولايات المتحدة أن تكون أكثر حزماً في المطالبة برؤية النتائج الملموسة لبرامج بناء القدرات والإصلاح في بغداد وأربيل. فكلتا العاصمتين تنفد من الأعذار حول تبرير السبب الذي يدفع بالميليشيات إلى مواصلة تهديد الدولة دون رادع رغم أن الشعب وجه ضربة قوية إلى “المقاومة” في الشوارع وفي صناديق الاقتراع. وصحيح أن قوات الأمن العراقية و”البيشمركة” نفذت بعض الإصلاحات المفيدة، إلا أن هذه الإصلاحات كانت مسائل عسكرية فنية إلى حد كبير ولم تتم مواءمتها بعد باتفاق سياسي. وبدلاً من التساهل مع هاتين القوتين العسكريتين، على واشنطن الضغط عليهما لتحقيق النتائج – ولا سيما “قوات البيشمركة” التي تمولها الولايات المتحدة. ويمكن لقوات الأمن الكردية الموحدة والخاضعة للمساءلة أن تلعب دوراً أساسياً في الحدّ من نفوذ الميليشيات المزعزع للاستقرار وحماية الأفراد العسكريين الأمريكيين المتمركزين في «إقليم كردستان».

بلال وهاب هو زميل زميل “واغنر” في معهد واشنطن.

المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى