أبرز العقوبات التي تعمل القيادات الإيرانية على إلزام إدارة بايدن لرفعها عنها عقوبات مالية ونفطية، والمستفيدان الرئيسيان من رفع هذه العقوبات هما الصين وروسيا.
موسكو متأهّبة لبيع مليارات الدولارات من ترسانة تشمل الغوّاصات والصواريخ وكل ما تستلزمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتنفيذ سياساتها الإقليمية. وبالتالي إنها شراكة متعمَّدة بفوائد للدولتين معناها العملي البراغماتي هو تمكين النظام في طهران من استكمال أجندة التوسّع في الجغرافيا العربية وتوطيد القوات غير النظامية التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
الصين ترى النفط متدفّقاً اليها بلا خشية من عقوبات أميركية، وهي تبالي فقط باستيراد النفط ولا يهمّها كيف تنفق طهران هذه الأموال طالما يُرفع سوط العقوبات الذي جهره الرئيس السابق دونالد ترامب في وجهها ويسقط بقرار للإدارة الجديدة. المدهش هو أن الرئيس جو بايدن وفريقه إما يتجاهلون أو يجهلون – وهذا مُستبعَد – التداعيات الجغرافية السياسية لهرولتهم نحو إطلاق يد الصين وروسيا في الشرق الأوسط عبر بوابة رفع العقوبات عن إيران وما لذلك من انتقاص للمصالح الأميركية القومية والاستراتيجية.
المدهش أن بايدن وفريقه لن يشترطا مسبقاً احتواء مغامرات “الحرس الثوري” في العمليات التي تنسف سيادة دول كالعراق وسوريا واليمن ولبنان، بل إن الولايات المتحدة ستموّلها برفع العقوبات فعليّاً حتى وهي تهدّد أمن الشركاء والحلفاء الذين تتعهّد إدارة بايدن لفظياً بالدفاع عنهم على نسق التعهّد بحماية أمن السعودية أمام عمليات الحوثيين الذين تسلّحهم طهران. لهذه الأسباب تسترخي القيادة الإيرانية في الثقة العارمة وهي توظّف الأوروبيين مبعوثاً مرعوباً منها ومن تهديداتها بأن تتحوّل الى قوّة نووية ليقوم بتسهيل الهرولة الأميركية للعودة الى الاتفاق النووي JCPOA بشروط إيرانية. فطهران واثقة أن أوروبا ستعاون أميركا بايدن في محو ذاكرة السلوك الإيراني المخرّب إقليمياً مقابل تعهّد إيران الامتثال لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية شرط إقصاء مسألة السلوك الإقليمي عن المفاوضات النووية كما سبق وحدث.
دونالد ترامب رفض المقايضات على صفقة مع إيران وتمسّك بالعقوبات أداة للتأثير في الأداء الإيراني، النووي منه والصاروخي والإقليمي. جو بايدن جاهز للمقايضة من أجل التوصّل الى صفقة مع إيران وهو جاهز للتخلّي عن العقوبات كأداة ضغط leverage أو كحافز incentives. الحنكة الإيرانية المعهودة تفهم قيمة هذا التغيير الجذري في السياسة الأميركية، ولذلك إن التقويم في طهران هو أن رئاسة بايدن، مهما بدت بطيئة الآن في تنفيذ التفاهمات، فإنها ستؤدّي في نهاية المطاف الى نصر إيراني.
وبحسب المعلومات، يعمل الأوروبيون على تسهيل اللقاءات للعودة الى الاتفاق النووي عبر إقناع فريق بايدن برفع جزء كبير من العقوبات قبل الاجتماع الذي يعمل الأوروبيون على عقده الشهر المقبل. هذا فيما تقوم روسيا والصين بإعداد مسودّة مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي ينص على إلغاء العقوبات على إيران وتدمير فكرة “سناب باك” أي إعادة فرض العقوبات في حال لم تقم طهران بتنفيذ تعهداتها النووية. بكلام آخر انه مشروع قرار يحرّر طهران كليّاً من أيّة محاسبة أو مراقبة.
قائد القوات المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي كان هذا الأسبوع ضيف الحلقة الافتراضية الـ29 لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي التي أستضيفها وشارك فيها الرئيس الشريك للقمّة الأمير تركي الفيصل والجنرال ديفيد بيترايوس القائد الأسبق للقوات المركزية الأميركية.
رأي ماكينزي هو أن روسيا والصين تعملان على “تقويض الولايات المتحدة” في الشرق الأوسط كلما استطاعتا وأن مسألة العودة الى الاتفاق النووي مع إيران أو مسألة رفع العقوبات هي “قرار سياسي وليس عسكريّاً”، وانه “علينا الانتظار لنرى ان كانتا ستبيعان السلاح لإيران”. ماذا لو قامت الصين أو روسيا ببيع الأسلحة لطهران، هل يشكّل ذلك تحدّياً لقائد القوات المركزية الأميركية؟ جواب ماكينزي لافت إذ قال: “اعتقد أنه في أي وقت تُعطى فيه دولة ذات نوايا كإيران مدخلاً access للحصول على أسلحة متطوّرة، إن ذلك inherently بجوهره عبارة عن عامل ضغط وزعزعة للاستقرار، وهو ليس أمراً جيّداً”.
من هنا يصعب فهم ماذا في ذهن الرئيس بايدن عندما يتعلّق الأمر بإيران أو بعقيدة بايدن نحو الصين وروسيا. الجنرال ماكينزي واضح في رؤيته لدوره كقائد للقوات المركزية في منطقة الشرق الأوسط إذ إن “مهمّتي هي ردع إيران عن هجوم مباشر أو غير مباشر ضدنا أو ضد شركائنا وأصدقائنا في المنطقة”. وقال: “الى حين الانتهاء من المشاورات حول السبيل الى الأمام مع إيران “مهمّتي في هذه الفترة هي إقناع إيران أنه ليس في مصلحتها أن تحاول القيام بعمل عسكري اما للضغط أو لتعطيل العملية”. وزاد: “إن الولايات المتحدة تحتفظ دائماً بالفأس وبحق الرد في الزمان والمكان الذي نختاره. لقد برهنّا ذلك عام 2020 بكل وضوح للكثيرين وبالذات إيران. فذاكرة الولايات المتحدة طويلة جدّاً كما قدرة الولايات المتحدة على الوصول إذا قررنا ذلك. وعليه، لنكتفي بهذا عندما نتحدّث عن الرد على هجمات ضدنا”.
ما أكده ماكينزي هو أن الأسلحة المستخدمة في هجمات الحوثيين على السعودية “لا تنبع من اليمن إنما هي تأتي الى اليمن من إيران ببصمات إيرانية واضحة جدّاً عليها”. قال إن “الولايات المتحدة منعت وصول عدد من شحنات الأسلحة الآتية من إيران الى الحوثيين”، وأنها قامت “بإنذار” السعودية بعمليات تُعَدّ ضدّها “لتتمكّن من الدفاع عن نفسها”. وقال إنه “واثق من أن السعودية جاهزة لإنهاء النزاع”، وأن “الكرة هي الآن في ساحة الحوثيين”، وأن الولايات المتحدة قدّمت “بلا شروط مسبقة” الى الحوثيين مبادرة “إبداء حسن النيّة” عبر “سحب تصنيفهم إرهابيين” بلا مقابل.
وهذا تماماً موضع الانتقاد لسياسات إدارة بايدن، أي التحفيز من خلال incentives خلال سحب أدوات التأثير leverage بلا مقابل. فالتفكير في إيران ولدى حلفائها هو أن هذا مؤشر على الضعف والاستعداد للمزيد من التحفيز بلا شروط مسبقة مع حجب مسبق لأدوات التأثير.
ما تقوم به الجمهورية الإسلامية الإيرانية في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية هو تجنّب المواجهة المباشرة واعتماد الردع على صعيد الدولتين. لجأت الى ما يسمى بـ”الردع المتنازع عليه” contested deterrence الذي يمكّنها أن تزعم أنها ليست وراء عمليات عسكرية بالنيابة يقوم بها شركاؤها في العراق أو في اليمن. وهكذا تحمي نفسها من الرد المباشر ضدّها بذريعة البراءة. خطورة هذا الأمر تكمن في اكتفاء الولايات المتحدة والدول الأوروبية بالقبول والرضوخ للتكتيك الإيراني.
أثناء الحلقة الافتراضية سأل الأمير تركي الفيصل عن التعريف الأميركي للإرهاب وإن كان يُطبَّق على هجمات الحوثيين على مواقع مدنية في السعودية كالمطار. رد الجنرال ماكينزي قائلاً: “أعتقد بالتأكيد أن ذلك يقع في خانة تعريف الإرهاب”. سُئِلَ عما تقوم به الولايات المتحدة وبالذات القيادة المركزية الأميركية إزاء استفزازات الحوثيين مستخدمين الأسلحة الإيرانية، فأشار الى عمق العلاقة “التي نثمّنها جداً” وعرَضَ شتى أوجه التعاون العسكري بما يشمل العمل مع السعودية “لتحسين قدرات باتريوت patriot” الدفاعية و”توسيعها”.
الأمير تركي أشار الى انتهاك إيران قرارات مجلس الأمن التي تمنعها من مد الدعم العسكري والأسلحة الى الحوثيين، لكنها تفعل بلا محاسبة أو اعتراض جدّي. الجنرال ماكنزي وافق على أن “البصمات الإيرانية واضحة” على الأسلحة التي يُطلقها الحوثيون ضد السعودية “ونحن ندرك أن هذه مشكلة بارزة” significant.
الجنرال بترايوس هنّأ سلفه على توسيع التعاون العسكري مع السعودية وشدّد على أن إيران هي “في الحقيقة ذات النفوذ الأكبر في ضرب الاستقرار” big destabilizing influence.
كل هذا فيما تتخبّط إدارة بايدن بين الترضية والإرضاء والإفلات من العقاب وهي تصقل علاقاتها مع أقطاب الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما مع حلفاء “الحرس الثوري” في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. العملية العسكرية الخجولة التي أقرّها الرئيس بايدن في سوريا رداً على التصعيد الإيراني في أربيل في العراق إنما هي في رأي “الحرس الثوري” وشركائه دغدغة وليست إنذاراً جديّاً. خطورة هذه السياسة “البايدنية” تكمن في رسالة الاطمئنان لقادة إيران بأنهم فوق المحاسبة، ورسالة وعود مبطّنة فحواها أن ادارة بايدن مستقتلة للعودة الى الاتفاق النووي بأي كلفة، وانها جاهزة للثمن الذي تقبل به طهران. والقيادات الإيرانية، المدنية والعسكرية والمرشدية، تقرأ رسائل بايدن وفريقه أنها مادة دسمة للابتزاز وإبرام الصفقات التي تريدها.
عودة الى الصين وروسيا من منظور أوسع من تحالفهما مع إيران ميدانياً وعملياً واستفادة كل منهما من سياسة إدارة بايدن العازمة على نسف أدوات المحاسبة برفع العقوبات وتحريرها لاستيراد الصين النفط بأموال باهظة واستخدام هذه الأموال لشراء أسلحة روسيا تستخدمها إيران لضرب استقرار السعودية ولتكريس الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان. فما تستفيد منه الصين وروسيا هو أيضاً سياسة إدارة بايدن نحو الدول الخليجية العربية وهما تقفان جاهزتين لملء الفراغ في حال قطعت واشنطن ذراعها وتراجعت عن صفقات الأسلحة مع السعودية والإمارات.
انها البراغماتية الصينية والروسية في زمن الهرولة الأميركية – الأوروبية لاسترضاء إيران كيفما كان بما في ذلك مكافأتها على سياسة تقويض سيادة الدول عبر ميليشياتها والاستسلام أمامها خوفاً من مشاريعها النووية.
المصدر: النهار العربي