عندما تبدو الحال الفلسطينية عبثية

   سمير الزبن

هناك كثير يمكن أن يُقال نقدياً في التجربة الفلسطينية ومساراتها العسيرة والمتعثّرة. والنقد والمراجعة ضروريان للنظر في تاريخ التجربة ومآلاتها. والأسئلة المطروحة على هذه التجربة، وبحكم التعقيدات والتداخلات التي عاشتها وتعيشها، أكثر من الإجابات الممكنة، خصوصاً أن التاريخ الفلسطيني الحديث يعجّ بالأحداث إلى درجة لم يلتقط الفلسطينيون أنفاسهم ولا في أيٍّ من مراحل تاريخهم الحديث، حتى يتأملوا تجربتهم بهدوء، ويُعطوها حقّها في الدراسة المتعمّقة. وهذا لا يعني عدم نقد التجربة حتى في الظروف الصعبة، ولا هو تبرير لما وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية، إنما هو توصيفٌ لواقع الحال.

بعد التجارب الفلسطينية الطويلة، هناك سؤال رئيس يجب تأمّله: هل الفشل الفلسطيني المزمن يرجع إلى أداء سياسي لنخبة وقوى سياسية وأدوات نضالية قاصرة؟ أم أن الفلسطينيين خاضوا ويخوضون صراعاً ميؤوساً منه، ومحكوم عليه بالفشل، المرّة بعد الأخرى، للحصول على حقوقهم التاريخية، ولو بالحدّ الأدنى؟

عميقاً، وبعيداً من التحليلات النقدية للتجربة الفلسطينية التي يمكن أن تُقال، فإن التأمل في التجربة، ورغم الكمّ الكبير من الكتابات عنها، من فلسطينيّين وغيرهم، يشعر المرء أن هناك شيئاً عصيّاً على التحليل في الحالة الفلسطينية، وكأن المفردات والمصطلحات التحليلية التي استخدمت في تحليل حركات التحرّر الوطني، التي انتهت من العالم، ولم يبقَ سوى الحالة الفلسطينية، أو في صراعات مقاربة للصراع مع إسرائيل… نقول، التأمل في التجربة يفقدها دلالاتها عندما توضع في السياق الفلسطيني لفهم هذا الواقع وتحليله، أو لنقد تجربة القوى السياسية، أو لفهم أشكال التعبير عن المرحلة، أو عن مراحل سابقة من التاريخ الفلسطيني. لذلك، يبدو الوضع الفلسطيني، في أحيان كثيرة، أحجيةً غير قابلة للحلّ.

الوضع الفلسطيني، وظروف الصراع مع احتلال إجلائي اقتلاعي، حالة خاصة، وفي حالاتٍ كثيرة، تبدو اللغة نفسها قاصرة عن التعبير عن واقع هذا الصراع. لم يبخل الفلسطينيون، طوال تاريخهم الحديث، بالتضحيات من أجل حقوقهم، وفي كل مرّة تصبح هذه الحقوق أبعد من التحقّق، أو تتقلص مع الهزائم والمزيد منها. فما بدأ النضال الفلسطيني به لم يعد مطروحاً في الساحة السياسية اليوم، وكثيرون (بناءً على ما وصلت إليه الحال) يراجعون التاريخ ويحاولون إصلاحه، وهو نقد بمفعول رجعي، من دون أن ينتبه أصحاب هذا النقد إلى أن هذا النوع من المراجعة يُحمِّل الضحايا مسؤولية الجرائم التي ارتكب بحقّهم. والمثال على ذلك عندما يقول بعضهم: “لو قبل الفلسطينيون القرار الدولي بتقسيم فلسطين بين دولتَين في عام 1947، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم”.

بالتأكيد، لا يُبنى التاريخ على “لو”. رغم ذلك، أيّ نقاش موضوعي لهذا الانتقاد سرعان ما يبين تهافته. فهل موافقة الفلسطينيين على قرار التقسيم كانت ستغيّر مسار الأحداث، وتغيّر من طبيعة المشروع الصهيوني التوسّعي؟ وهل هذه الموافقة كانت ستجعل المشروع الصهيوني يقف عند الأراضي التي حدّدها القرار الدولي للدولة اليهودية في قرار التقسيم؟ هل يحتاج هذا المنطق لنقاش جديّ؟… لا أظنّ.

كل التجارب مع إسرائيل فشلت المرّة بعد الأخرى، بما فيها الانتفاضة الأولى السلمية، وهجوم السلام الفلسطيني

اليوم، وبعد التداعيات التي شهدها الوضع الفلسطيني، وإجمالي المنطقة، بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023)، والحرب الإسرائيلية الوحشية والمدمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزّة عامَين، وعلى حزب الله في لبنان، وعلى إيران، أصبحت هذه الحرب وتداعياتها محور النقاش الفلسطيني، وفي مقدمتها العمل المسلّح. وإذا تجاوزنا الأوهام عن قدرة السلاح الفلسطيني المتواضع على تحرير فلسطين، وهو الوهم الذي قام عند بعض أجنحة حركة حماس ومؤيّديها الأكثر تشدّداً، ولا حاجة لاستعراض ميزان القوى بين الطرفَين، لإثبات ضخامة هذا الوهم. وهنا، يمكن مناقشة “طوفان الأقصى” بوصفه عمليةً فتحت مواجهةً مباشرةً مع الترسانة العسكرية الإسرائيلية، التي لم تتورّع حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية فيها عن استخدام أقصى القوة للردّ على العملية، مدعومةً من العالم كلّه. وهذا الدعم لم يتراجع كثيراً على مستوى الحكومات، وإن تراجع على مستوى الشعوب أمام جرائم الإبادة التي ارتكبتها الآلة العسكرية الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين العزّل. لم يقتصر النقاش الفلسطيني على العملية، بل امتدّ إلى جدوى العمل المسلّح. ليس في هذه العملية فحسب، بل طوال التجربة الفلسطينية أيضاً. وهذا طبيعي بعد الكلفة الهائلة التي دفعها الغزّيون في هذه الحرب غير المسبوقة في تاريخ الصراع. وهذا ما يطرح السؤال المركزي في الصراعات المفتوحة، مثل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وهو سؤال القدرة والجدوى؟ إذا كنتَ قادراً على فعل كبير، وكانت الجدوى منه سلبية، فبديهيات السياسة تقول إن الفعل الضار وغير المُجدي يجب الابتعاد عنه، وإلا كان الفعل انتحارياً بامتياز. وهذا ما ينطبق إلى حدّ كبير على “طوفان الأقصى”. نقّاد “طوفان الأقصى”، والعمل المسلّح الفلسطيني، يعتبرون هذا الشكل الكفاحي غير مُجدٍ، والصراع السلمي وحده القادر على إعادة الخطاب الفلسطيني خطاباً سلمياً لضحيّة في مواجهة جلاد.

يعيش الفلسطينيون وجوداً سيزيفياً، يحملون صخرة حقوقهم إلى الجبل لتتهاوى كل مرّة

ليس كاتب هذه السطور ضدّ النضال السلمي، ومن المهم جدّاً أن تُبنى السياسة على مصالح البشر، والتخفيف من آلامهم، وتجنّب أي تضحيات مجّانية أو غير مجدية أو مضرّة. وأعتقد أن المشكلة الإسرائيلية، في نهاية المطاف، عبء على الفلسطينيين، وكأنّ حلَّ المشكلة اليهودية مسؤوليةٌ فلسطينية. لكنْ كل التجارب مع إسرائيل فشلت المرّة بعد الأخرى، بما فيها الانتفاضة الأولى السلمية، وهجوم السلام الفلسطيني، ذلك كلّه كان بلا جدوى مع إسرائيل التي قرّرت أن تعيش على حدّ السيف في المنطقة، وترى في كل شيء فلسطيني تهديداً وجودياً.

الظنّ أن الفلسطينيين يعيشون وجوداً “سيزيفياً”، كلّما صعدوا تلّاً حاملين صخرة حقوقهم الوطنية في جبل الصراع الطويل والقاسي، سرعان ما يرتدّ الحال إلى وضعه الأول أو أسوأ، أحياناً بفعلهم الذاتي، وأغلب الأحيان بفعل غيرهم. أمّا إسرائيل فتخلق كل يوم واقعاً جديداً في أرض الصراع، أو بفعل حروب آخرين في المنطقة ليس للفلسطينيين علاقة بها، كحروب الخليج المتعاقبة.

رغم ذلك، كأنّ قدر الفلسطينيين أن يستمرّوا في البحث عن أدواتٍ مناسبة لإنهاء الوضع “السيزيفي” الذي يعيشونه. كيف ذلك؟ إنه سؤال مطروح على الجميع، في ظرفٍ من أصعب الظروف وأعقدها على المستويات كلّها، الوطنية والإقليمية والدولية.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى