عن “شرارة تغيير” في العراق

عبد اللطيف السعدون

يطرح عراقيون كثيرون فرضية سقوط نظام طهران أو بقائه مع بتر أذرعه ونزع أنيابه، مدخلا لبحث إمكانية تحقيق تغيير يريدونه لبلادهم بعد أن عجزوا عن فعله أكثر من عقدين، خضعت بغداد خلالهما قسراً لهيمنة “الولي الفقيه” عبر تركيبة أحزاب “إسلاموية” صنعتها إيران أيام النظام العراقي السابق، وأمدّتها بوسائل الدعم والبقاء حتى انتفخت، وولدت فصائل مليشياوية امتلكت السلاح، وسيطرت من خلاله على السلطة والمال العام والقرار في ظل “عملية سياسية” طائفية، رسمها الأميركيون بعد احتلالهم اللعراق بدعوى إقامة الديمقراطية.

التجربة الهجينة التي استوطنت العراق أخذته بعيدا عن محيطه العربي، وسلبته موقعه المتقدّم، وزرعت فيه كل أنواع الشرور والموبقات، وأوصلته إلى إحباط شامل، جعلت كل إمكانية للتغيير أقرب إلى المستحيل.

ما أعاد هذه التداعيات الى الأذهان حرب ايران وإسرائيل، الحرب التي أعلن أمس موافقة درفيها على إنهائها، وإشارات من أميركيين وإسرائيليين عن احتمال أن تؤدّي هذه الحرب إلى انهيار نظام “الجمهورية الاسلامية”، أو على الأقل بقائه مكسور الجناح، مبتور الأذرع، ومنزوع الأنياب. ورغم أن الأمور لا تؤخذ بهذه العفوية، فإن الحديث عن التغيير في العراق على خلفية ما قد يحدُث في طهران أصبح مطروحا، مع أن وكلاء إيران وتابعيهم يمتنعون عن تصوّر احتمالٍ كهذا، ويعتبرون أنفسهم محصّنين بميثولوجيا الرايات السود التي تضمن بقاء حكمهم أبد الدهر. وتعكس نظرة فاحصة على مواقع التواصل جانباً من الصورة. لكن أي مدى من النظرة الواقعية يمكن أن يقربنا من رؤية احتمالات المستقبل؟

يعلق دعاة التغيير آمالهم على أنه في حالة سقوط نظام طهران أو تقزيمه فإن التركيبة التي ستخلفه، حتى لو كانت من بقايا النظام أو ممن يمثلون “التيار الإصلاحي” المعتدل، فلن يكون لديهم الدافع إلى التدخل في العراق أو في غير العراق، على غرار ما فعله نظام ولاية الفقيه، وفي ظل الضربات التي ستطول المليشيات العراقية، وتآكل نظام بغداد تبعاً لذلك تكون الفرصة، في نظر هؤلاء، سانحة لتحويل “اللحظة الايرانية” إلى “لحظة عراقية” قادرة على تحقيق التغيير المطلوب.

من غير المتوقع أن يترك حكام بغداد السلطة بمجرد تداعي نظام “ولاية الفقيه” أو حصول انتفاضة شعبية في بغداد

ما يراه هؤلاء الدعاة أمر لا يستقيم مع واقع الحال، إذ لا يمكن أن يمر أي “سيناريو” لتغيير الوضع في العراق بالسلاسة التي تختمر في أذهانهم. ومن غير المتوقع أن يترك حكام بغداد السلطة بمجرد تداعي نظام “ولاية الفقيه” أو حصول انتفاضة شعبية في بغداد. بالعكس، سيدفعهم أمرٌ مثل هذا إلى توحيد صفوفهم، وتجاوز الخلافات الناشئة بينهم، وتجميع أنصارهم دفاعاً عن وجودهم بكل ضراوة، والاستعانة بالمليشيات وأجهزة الأمن وقوات الجيش للدفاع عن النظام في مواجهة أي فعل مضادٍّ لهم مهما كان صغيراً. والخطورة الكبرى أنهم سيعمدون إلى لعب الورقة الطائفية التي أتقنوا استخدامها في أكثر من مرّة، بهدف تحويل المواجهة إلى صراع بين مكوّنات المجتمع العراقي القائم على التعدّد والاختلاف، وربما يجر هذا إلى حرب أهلية، وهو ما ينبغي أن يكون محسوباً بحذر لدى القوى الساعية إلى التغيير.

يبقى موقف الولايات المتحدة التي لن تكون قطعا في وارد النأي بنفسها عما يحدث، وسيكون لها حضورها في إنضاج أية تركيبة سياسية جديدة بما يتوافق مع مصالحها، سواء من خلال ما تتيحه لها اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة بين البلدين أو من دونها، حيث لا تزال تحتفظ على الأرض العراقية بآلاف الجنود، وسوف تعمد إلى إعادة إنتاج “العملية السياسية” القائمة بزجّ وجوه جديدة متوافقة مع أهدافها، ولن تسمح بظهور تركيبة متطرّفة أو معادية لها.

والعقدة التي لا يمكن تجاهلها هنا أن محاكمة أي “سيناريو” محتمل تعتمد على تحديد القوى المرشّحة لقيادة التغيير أو التي يمكن أن تشكّل البديل للتركيبة الحالية، إذ لا تبدو ثمّة جهة تمتلك ما يؤهلها للقيام بهذا الدور وحدها، ومن دون شريك أو شركاء. وقد لا تخرُج هذه الصيغة إلى النور من دون دعم الولايات المتحدة التي تُمسك بالملف العراقي، ومن دون مباركة الأطراف النافذة في الإقليم، وربما تتيح التداعيات اللاحقة إنضاج “سيناريوهات” غير محسوبة. أما ما يتردّد في مواقع التواصل عن إمكانية شباب تشرين، أو بقايا النظام السابق أو جهات منسلخة عن حزب البعث أو جهات أخرى، على تشكيل البديل بسهولة، فهو من قبيل الأماني التي ربما لا تصمد أمام الواقع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى