اهتمّت إسرائيل بـ”كلاب غزّة” التي هربت من الحرب مستغلّة عدم وجود جدران فاصلة، فأحدها نقله جندي إلى عائلة تعيش في هرتزيليا وتبيّن أنه مصاب بـ”داء الكَلَب”، ما استوجب إعدامه بأسلوب… “القتل الرحيم”. ونشرت الصحف أن مواقع التواصل الاجتماعي شهدت انتشاراً لصور جنود يجلبون كلاباً من قطاع غزّة، لذلك نبّهت السلطات الصحيّة إلى أن إدخال الكلاب والقطط “بطريقة غير منظّمة ومشروعة” يمكن أن يسهم في انتشار الأمراض. لكن إسرائيل لم تهتم بتقارير لمنظمة الصحة العالمية ووكالة “الأونروا” ومنظمات أخرى تفيد بانتشار الأمراض والأوبئة جرّاء الجوع والعطش، بين سكان غزّة الذين لم يعودوا سكاناً بل نازحين. رفِق جنودها بالكلاب، من بين أشياء كثيرة نهبوها كـ”تذكارات” لمشاركتهم في مقتلة الإبادة الكبرى، ولم يفكّروا في “القتل الرحيم” عندما أخرجوا الأطباء والممرضين من “مجمع ناصر الطبي” في خان يونس، واعتقلوا العديد منهم، قبل أن ينتقلوا إلى مستشفى “الأمل” لإخلائه، ولم يسمحوا بنقل مرضى وجرحى تحت العلاج بل تُركوا لمصيرهم بعد انقطاع الأوكسجين عنهم.
لا بدّ من النظر في التفاصيل للتعرّف إلى الدَرَك المتدني الذي بلغه “الشيء” الإنساني أمام العيون الشاخصة إلى الشاشات وترى المآسي من دون إدراك هولها، فالقول بأن معاناة إنسان واحد هي معاناة للإنسانية جمعاء بات بلا معنى ما دام أن أحداً، لا قوّة عظمى ولا دولاً كبرى ولا دولاً شقيقة أو صديقة ولا مجلس أمن ولا محكمة عدل دولية، قادرٌ على وضع نهاية لهذا التقتيل والتدمير في غزّة. وزير الخارجية الأميركي يشكو في مؤتمر ميونيخ من أنه يعمل كل يوم من أجل إيصال مساعدات لا تصل أبداً، ومنسّق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي يقول إن بلاده تولي اهتماماً لـ”شحنة دقيق” لم تسمح إسرائيل بنقلها من ميناء أسدود إلى شمال غزّة (المقطوع عن العالم) لأن “الأونروا” هي المسؤولة عن هذه الشحنة والكنيست تدرس إقرار قانون يمنع هذه الوكالة من العمل في إسرائيل. لم يكترث بنيامين نتنياهو لنداءات الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني وآخرين لفتح المعابر أمام الإغاثة، فهو يذكّر الغربيين جميعاً بأنهم أعطوه “الضوء الأخضر” للتصرّف ضد قطاع غزّة وأهله، وهو تصرّف على أساس أن لا قيود على جيشه ولا محرّمات.
في لقاء كنسي في لندن قال الأب الآتي من بيت لحم إن القوى الدولية (الغربية) تعاملت مع “هجوم حماس” والحرب الوحشية التي أعقبته بـ”عقلية استعمارية بحتة”، سواء في السردية التي تعتبر “يوم 7 أكتوبر” بداية الحدث وليست سياقاً ونتيجة له أم في تسويغ كل الجرائم التي ترتكب في الحرب والسكوت عما كشفته من عنصرية فاقعة وإبادة جماعية. ولذلك فإن القوى التي قدمت “الدعم المطلق” لإسرائيل كي تفلت جيشها للانتقام هي نفسها قوى يزخر تاريخها بالمذابح في مستعمراتها السابقة، ولم تستطع أن تحرّم على إسرائيل ما أباحته لنفسها. اعتبرت هذه القوى أن لإسرائيل “الحق في الدفاع عن نفسها”، وتناست أنها تجاهلت مناشدات فلسطينية تكرّرت على مدى عقود مطالبة بـ”حماية دولية” أو بأي حماية للشعب الفلسطيني، بل إنها أنكرت ولا تزال حقّ هذا الشعب في الدفاع عن نفسه، أو في مقاومة الاحتلال، أو حتى الدعوة إلى مقاطعة منتجات المستوطنات، وصولاً إلى سنّ قوانين تجرّم هذه المقاطعة بتهمة “معاداة الساميّة”، وبعد اندلاع الحرب الحالية بلغ الكونغرس الأميركي حدّ تحصين “الصهيونية” أسوة بـ”السامية” واعتبار المسّ بهما جرماً يعاقب عليه القانون. يحقّ للسامية والصهيونية أن تقتلا وتبيدا وتدمّرا ولا يحق للضحية أن تدينهما.
لم يعد هناك شكّ في أن إسرائيل وُعدت في طيّات “وعد بلفور” والوعود الأميركية التي تبعته بأنها مخوّلة استعباد الفلسطينيين. الجندي الإسرائيلي الذي حاوره ناشط فلسطيني على أحد مواقع التواصل قال بعفوية إنهم تربوا على معاملة الفلسطينيين كـ”عبيد”. لذلك انقرض تدريجاً من الوسط السياسي الإسرائيلي ذلك النوع البشري الذي يمكن أن يفكّر، أو يجرؤ على التفكير، في ضرورة التوصّل إلى حلّ دائم للمسألة الفلسطينية وشعبها. طوت الأحزاب الإسرائيلية الملف، وراح الساسة يردّدون: انسوا القضية الفلسطينية، لم تعد موجودة، ولا حتى عند العرب، إذ لم تأتهم إلا بالمشكلات والمتاعب، الاحتلال ليس المشكلة بل هي في الفلسطينيين أنفسهم إذ يريدون دولة واستقلالاً وحرّية وعدالة، ولا مكان لمشروع كهذا في المنطقة، لا إسرائيل تتيحه ولا جيرانها يريدونه حتى لو قالوا العكس!.. وبعدما أنتج الوسط السياسي خطاً يمينياً رافضاً أي تسويات أو مجرد مفاوضات، جاء اليمين الديني المتطرّف يرفده ويتجاوزه، ليس فقط إلى تعزيز الفصل العنصري، بل إلى تطبيق الاستعباد للفلسطينيين وتشريعه، وإلى إفلات المستوطنين كميليشيات رديفة للجيش في ترسيخ الاحتلال وفي امتهان كرامة الفلسطينيين وجعل بلداتهم وقراهم وبيوتهم معازل كما كانت حال سود جنوب أفريقيا في عهد “الأبارتايد”.
حصلت “النكبة الأولى” وسط هزيمة العرب الذين حاربوا من أجل فلسطين، وبعدها كان همّ الإسرائيليين أن يبنوا كيانهم وأن يعملوا على المدى الطويل لتلقى دولتهم قبولاً من المنطقة، أي من العرب. أما “النكبة الثانية” فتجري وقائعها وسط “مسالمة” و”اعتدال” لا تلقيان أي اعتبار من متطرّفي إسرائيل ولا ممن يعدّون “وسطيين” من جنرالاتها ممتهني السياسة، فهؤلاء يدعون علناً أو يؤيدون ضمناً تهجير الفلسطينيين، واستطلاعات الرأي لمجتمعهم تدفعهم في هذا الاتجاه، ما دامت الحرب على غزّة تتيح ذلك، كما أن مجريات الحرب باتت تمكّن نتنياهو وغيره من اعتبار نتائجها أكثر من هزيمة لـ”حماس” وسائر الفصائل، إذ جعلت إسرائيل غزّة أرضاً مدمّرة ومحروقة، وسكاناً بلا مأوى ولا غذاء وماء ودواء، بل تمكّنت من تنفيذ كل خططها لإبادة جماعية مع سابق تصوّر وتصميم وإصرار… من دون أن يصدر في حقّها سوى قرار من محكمة العدل الدولية يطالبها بـ”إجراءات احترازية”. فهل يهتمّ المجرم إذا كان متأكداً من أنه في منجىً من أي عقاب؟
لا دليل إلى ذلك أكثر من أن واشنطن تدعو إلى هدنة “موقتة” فيما هي ترسل شحنة أخرى من الأسلحة والذخائر، ولا تعارض الهجوم على رفح إلا بعد إجلاء مليون ونصف مليون إنسان سبق أن نزحوا مراراً خلال الشهور الأربعة الماضية. أكثر من ذلك، تعمل واشنطن على دعم جريمة “الإبادة الجماعية” ومكافأة إسرائيل بتوسيع “التطبيع” لـ”دمج” إسرائيل في المنطقة. إذا لم يكن ذلك احتقاراً للعدالة الدولية، فهو على الأقل استهانة بالمنطقة ودولها، وتأكيدٌ بأن العقلية الاستعمارية لا تبحث عن سلام بل عن نزاعات مستدامة.
المصدر: النهار العربي
إن القوى الإمبريالية الاستعمارية الغربية تعاملت مع “Tوفان الاقصى” والحرب المتوحشة القذرة التي شنتها قوات الاحتلال الصhيوني بـ”عقلية استعمارية بحتة”، سواء بالسردية بإعتبار “7 أكتوبر” البداية وليست نتيجة لما سبقه من جرائم وأبارتهايد إرتكبته حكومة الإحتلال والسكوت عما كشفته من عنصرية فاقعة وإبادة جماعية، إن ما يجري العمل عليه بمكافأة قوات الاحتلال على جرائمها بتوسيع “التطبيع” لـ”دمج” إSرائيل في المنطقة هي العهر السياسي بإمتياز .