في ظل استمرار حالة التردي العربي الشامل والهيمنة الاستعمارية والطائفية، تمر هذه الأيام الذكرى 105 لميلاد جمال عبدالناصر، ففي 15 كانون الثاني/ يناير من كل عام الموافق لميلاد ذلك القائد والرمز العربي الكبير جمال عبدالناصر، الذي شغل الدنيا في خمسينات وستينات القرن الماضي، ونذر نفسه وكل طاقته وطاقات الجمهورية العربية كلها حتى وفاته رحمهُ الله لخدمة شعبه وجميع شعوب العالم العربي، من خلال قيادته لثورة تموز/ يوليو عام 1952 في مصر والذي أعلن فيها مبادئه وأفكاره الثورية والمتمثلة في العمل لتحقيق المشروع القومي العربي الوحدوي، ومقاومة الاستعمار وطرده من الأرض العربية، وفي مقاومة الصهيونية وتحرير فلسطين، والعمل على إسقاط النظم العربية الرجعية التي تشكل رديف لخدمة الاستعمار والصهيونية ولازالت حتى اليوم.
ولتحقيق هذه الأهداف فقد سَخَر جمال عبدالناصر مقدرات مصر وثورة تموز/ يوليو بما تملكه من قدرات إعلامية وسياسية لتحقيق هذه الأهداف بعد أن حررت الثورة مصرَ من الاستعمار البريطاني وطردت قواعده العسكرية المتواجدة فيها؛ فألغت النظام الملكي الذي كان في خدمة الاستعمار البريطاني، وألغت الإقطاع وأصدرت قوانين الإصلاح الزراعي لصالح تمليك الفلاحين، وشاركت العمال في أرباح الشركات بعد أن أمم عبدالناصر الشركات الأجنبية وحولها لمصرية، وتم تخصيص خمسون في المئة من أعضاء البرلمان لصالح الطبقة العاملة من عمال وفلاحين، كما أقامت الثورة نهضة صناعية وعلمية وثقافية، وطبقت التعليم المجاني لكافة فئات الشعب بما فيهم العمال والفلاحين بجميع المراحل الدراسية، بعد أن كان التعليم حكراً على الطبقة الأرستقراطية لعدم قدرة الطبقة الفقيرة من دفع الأجور الدراسية، وبذلك أصبح أبناء الفقراء أطباء ومحامين وضباط ومدراء وسفراء ووزراء .. الخ.
كما أممت ثورة يوليو قناة السويس الموجودة داخل الأراضي المصرية والتي كانت شركة أجنبية لعديد من الدول، تذهب مواردها المالية من رسوم عبور السفن إلى هذه الدول، فتحولت بالتأميم للدولة المصرية، وقادت مصر الثورة، حركات التحرر الوطني في الدول العربية، والتي أدت إلى قيام عدد من الثورات، حيث كانت قيادة الجمهورية العربية على اتصال بالضباط الأحرار في الدول الثائرة، فقد دعمت الثورة في اليمن بقيادة عبدالله السلال 1962 ودعمتها بالجنود، لحمايتها من التدخلات الخارجية التي كُلفت بها السعودية، وقدمت آلاف الشهداء من الضباط والجنود على طريق نجاح ثورة اليمن واستقرارها، ودعمت ثورة العراق ضد النظام الملكي 1958، كما دعمت الثورة الليبية 1969، ودعمت ثورة الجزائر منذ انطلاقتها في 01 تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 ضد الاستعمار الفرنسي حتى استقلال الجزائر في 1962 بعد استعمارٍ فرنسي دام 132 عاماً (1830-1962).
ويذّكُر المرحوم المناضل أحمد بن بلا أول رئيس للجزائر بعد استقلالها على هامش دعوة عشاء أقيمت له في لندن عام 1995 “.. إن عبدالناصر سخر للثورة الجزائرية كافة وسائل الإعلام ودعم الثورة في المال والسلاح وفي المحافل الدولية وقال إن مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي مع بريطانيا وإسرائيل عام 1956 كان قد سرع دعم عبدالناصر اللامحدود للثورة الجزائرية..”.
وسَخَرت ثورة تموز/ يوليو وسائل إعلامها المرئية والمكتوبة لتحقيق الوحدة العربية، فاستطاعت تحقيق أول نواة لوحدة عربية حقيقية في التاريخ العربي الحديث في 22 شباط/ فبراير 1958، وشكلت هذه الوحدة خطراً على مصالح الاستعمار ووجود النظم العربية الرجعية فضلاً عن وجود الكيان الصهيوني إسرائيل، إذ لا نهضة عربية بلا وحدة عربية التي يحققها التكامل العربي الاقتصادي والعلمي والثقافي والسياسي، كما أنه لا تحرير لفلسطين بلا وحدة عربية، لذلك قامت القوى الاستعمارية بالتعاون مع أذرعها من الرجعية العربية- خاصة في سورية- وبتغطية من الكيان الصهيوني في جريمة فصل سورية عن دولة الوحدة في 28 أيلول/ سبتمبر 1961 ومن المفارقات أن يكون هو يوم رحيل جمال عبدالناصر أيضاً في 1970؛ فلازال المشهد العربي في حالة انحدار تتناهبهُ الطوائفية والظلامية، وتغليب الأجندات غير الوطنية وغير القومية، وعدم الاستقلال في كلِ شيء منذ غيابه وتسلُم السادات ونظم الردة للمشهد؛ كما ودعمت ثورة تموز/ يوليو وقائدها حركات التحرر العالمية لشعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية بالمحافل الدولية لنيلها الاستقلال.
إن المشروع القومي الوحدوي الذي رفعته ثورة تموز/ يوليو وزعيمها لازال قائماً، وتتمسك به القوى الوحدوية، وتعمل لتحقيقه، لأنه الوحيد الذي يجلب للعرب هيبتهم وكرامتهم، والوحيد الذي يقيم النهضة والحضارة العربية، وبغيره لا تتحرر فلسطين، بل سيزداد الوضع العربي تشرذماً وتقسيماً وتذرراً، وما يعيشه المشهد العربي هذه الأيام من تردي وفوضى بفعل سلوك السُلط المستبدة، كأدوات للتدخل الاستعماري والصهيوني، لهوَ الدليل على أهمية الوحدة الوطنية والقومية وإعادة إحياء مشروع النهوض العربي الذي قاده جمال عبدالناصر، وما حال سورية واليمن والصومال والجزائر وتونس وليبيا ولبنان والعراق والسودان .. الخ اليوم، إلا دليلاً أشد على غياب المرجعية التي كان يمثلها جمال عبدالناصر، وعمق الدور الذي لعبه أعداء مشروع جمال عبدالناصر، حيثُ تعم في هذه الدول سياسات الفوضى والنهب والتجويع، والحروب من كل لون بهدف تشظيها وتقسيمها لصالح هيمنة الغرب وإيران وروسيا وأشباههم، ليبقى الصهاينة مهيمنين على منطقنا، وحراساً لمصالح القوى الاستعمارية وخاصةً الأمريكية والغربية، وللتطبيع أكثر معهم، وإعادة تدوير الأنظمة الساقطة بفعل ثورة 2011 على خطى دول التآمر والعمالة العربية، ولا يكاد يخلو قُطر عربي من تطبيع علني أو ضمني بإشراف غربي وشرقي مع الصهاينة، لصالح المحاصصات الطائفية والمالية الأوليغارشية، وبناء نظم المخدرات، وتدمير طموحات وآمال شعوبنا العربية جمعاء، في الحرية والأمن والأمان والتقدم والسلام.
فكمْ شكلَ غيابُكَ أيها القائد الكبير “أبا خالد”، حالةً من اليُتم العربي من بَعدكَ، مع تسيُد عصابات الاستبداد والقتل والسرقة والمخدرات والعمالة، فلازالت أبواق البعض، للأسف، تهرف بما لا تعرف، للنيل منكَ ومن تجربتك النهضوية المستقلة بعد كل سنوات الغياب!
يناير 14, 2023
المصدر: موقع الحرية أولًا
في الذكرى الـ 105 لميلاد الرئيس القائد جمال عبدالناصر، 15 كانون الثاني/ يناير نستذكر حالة الأمة العربية بعد غياب القائد والرمز العربي الكبير ، لقد أصبحت الأمة العربية بحالةً من اليُتم بعد رحيلك وسادت عصابات الاستبداد والقتل والسرقة والمخدرات والعمالة على أنظمة الحكم ، الله يرحمه ويغفر له ويجعل مثواه الفردوس الأعلى .