كيف يمكن لواشنطن تحقيق الاستقرار في منطقة تشهد تحولات كبيرة
قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بدا كأن رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط بدأت تتحقق أخيراً. إذ توصلت واشنطن إلى تفاهم ضمني مع طهران بشأن برنامجها النووي، أوقفت إيران بموجبه فعلياً أي تقدّم إضافي في برنامجها النووي مقابل الحصول على إعانة مالية محدودة. واشتغلت الولايات المتحدة على إبرام اتفاقية دفاعية مع السعودية، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تشجيع المملكة على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. علاوة على ذلك، أعلنت واشنطن عن خطط لإنشاء ممر تجاري واسع النطاق يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط من أجل موازنة نفوذ الصين المتزايد في المنطقة.
بالطبع، ظهرت عقبات في الطريق. وعلى رغم أن التوترات بين طهران وواشنطن انخفضت مقارنة مع فترات سابقة، إلا أنها ظلت مرتفعة. وبطريقة موازية انشغلتْ الحكومة الإسرائيلية التي تبنت موقفاً يمينياً لا لبس فيه، بتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، مما أثار غضب الفلسطينيين. لكن المسؤولين الأميركيين لم ينظروا إلى إيران على أنها دولة معطِّلة [تفسد الأنشطة والمفاوضات الدبلوماسية]، إذ أنها استأنفت أخيراً علاقاتها مع حكومات عربية عدة. كذلك، طبّعت دول عربية بالفعل علاقاتها مع إسرائيل، على رغم أن هذه الأخيرة لم تقدم تنازلات كبيرة للفلسطينيين.
ثم شنّت “حماس” هجوماً على إسرائيل، الأمر الذي أدخل المنطقة في حالة من الفوضى وقلب رؤية الولايات المتحدة رأساً على عقب. وتضمن الهجوم الواسع الذي نفّذته الجماعة المسلحة انطلاقاً من قطاع غزة، اختراق مقاتليها جداراً حدودياً أمنياً عالي التقنية واجتياحهم بلدات جنوب إسرائيل وقتلهم حوالي 1200 شخص واحتجازهم أكثر من 240 رهينة. وبالتالي، أوضح الهجوم أن الوضع في الشرق الأوسط لا يزال غير مستقر وجاهز للانفجار في أي لحظة. وأثار ذلك الهجوم رد فعل عسكري شرس من جانب إسرائيل، مما أدى إلى كارثة إنسانية في غزة، مع سقوط أعداد كبيرة من القتلى ونزوح كثير من الفلسطينيين، وزاد خطر نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقاً. مرة أخرى، عادت محنة الفلسطينيين إلى الواجهة. وبالنظر إلى أن الدعم الإيراني يؤدي دوراً حاسماً في صمود “حماس” وقدراتها العسكرية، فإن إمكانات إيران العسكرية الإقليمية تبدو الآن قوية للغاية، ويبدو أيضاً أن طهران تبنّت بشكل مستجد موقفاً أكثر حزماً. وعلى رغم عدم رغبتها في صراع أوسع نطاقاً، إلا أنها تستمر في التمتع باستعراض القوة الذي قدمته “حماس”، ومنذ ذلك الحين، صعّدت موقفها مع تبادل إطلاق النار بين إسرائيل وميليشيا “حزب الله” اللبنانية، وتوجيه جماعات أخرى مدعومة من إيران صواريخ نحو القوات الأميركية.
ما زالت الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ كبير في الشرق الأوسط، بيد أن تأييدها للحرب الإسرائيلية أدى بالتأكيد إلى تقويض مصداقيتها في المنطقة. (وعلى نطاق أوسع، أضر هذا الدعم أيضاً بمكانة واشنطن في الجنوب العالمي، خصوصاً أن ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس تحول إلى عقاب جماعي للمدنيين الفلسطينيين). وهذا يعني أنه سيتعين على الولايات المتحدة صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط، تعترف فيها بالحقائق التي تجاهلتها منذ فترة طويلة. ومثلاً، لم يعد بإمكان واشنطن إهمال القضية الفلسطينية. وفي الواقع، سيتعين عليها أن تجعل حل هذا الصراع نقطة محورية في مساعيها. وببساطة، من دون مسار واقعي وموثوق نحو إقامة دولة فلسطينية مستقبلية، سيكون من المستحيل بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن تعالج قضايا أخرى في المنطقة، بما في ذلك مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية.
واستكمالاً، يجب على واشنطن أيضاً أن تتعامل مع قوة طهران المتصاعدة، التي هزّت الشرق الأوسط وزعزعت استقراره. إذا أرادت الولايات المتحدة إحلال السلام في المنطقة، فيجب عليها إيجاد أساليب جديدة كي تضع حداً لإيران ووكلائها. وبنفس المقدار من الأهمية، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تقلل من ميل إيران ووكلائها إلى تحدي النظام الإقليمي. وسوف تحتاج بشكل خاص إلى اتفاق جديد يوقف التقدّم الإيراني نحو اكتساب القدرة على صنع أسلحة نووية.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، ليس من المفترض أن تتخلى الولايات المتحدة عن كل جهودها السابقة. وفي الواقع، يمكنها، لا بل يجدر بها، أن تستفيد من عناصر النظام الذي تصورته سابقاً [قبل هجوم السابع من أكتوبر]. وعلى وجه الخصوص، يجب على واشنطن أن تبني خطتها الجديدة للمنطقة على شراكتها مع السعودية، إذ إنها تحافظ على علاقات دبلوماسية مع إيران وإسرائيل والعالم العربي بأكمله. وفي الحقيقة، تستطيع للرياض استخدام نفوذها الواسع من أجل المساعدة في إحياء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية ومساعدة الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران. ومعاً، تستطيع الرياض وواشنطن إنشاء الممر الاقتصادي في الشرق الأوسط الذي تحتاج الولايات المتحدة إليه من أجل تحقيق التوازن في مواجهة الصين.
لن تكون هذه الصفقة الكبرى الجديدة واضحة ومباشرة كتلك التي تفاوضتْ الولايات المتحدة بشأنها قبل السابع من أكتوبر. ولن تبدأ بالتطبيع الإسرائيلي السعودي، ولن تنتهي بتحالف عربي إسرائيلي ضد إيران. ولكن على النقيض من الاتفاقات السابقة، سيكون هذا الإطار الجديد قابلاً للتحقيق. وإذا نُفذ هذا الاتفاق بشكل صحيح، فسيؤدي إلى خفض التوترات الإقليمية وإرساء السلام الدائم.
التفكير بموجب الأمنيات
من السهل أن نفهم لماذا اعتقدت الولايات المتحدة أن بإمكانها الانسحاب من الشرق الأوسط. في الواقع، لقد بدا أن الصراع العربي الإسرائيلي على مشارف نهايته حتى في ظل استمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد أبرمت إيران صفقة فاعلة مع الولايات المتحدة ترمي إلى الحد من تقدم برنامجها النووي، وطبّعت العلاقات مع السعودية ودول أخرى في الخليج. وبدا أن المنطقة تدير شؤونها بنفسها [بدون الحاجة إلى تدخل الولايات المتحدة]، مما يسهم في إزالة هذا العبء عن واشنطن وإعطائها المساحة المطلوبة للتركيز على شؤون آسيا وأوروبا.
لكن واشنطن بالغت في تقدير درجة استقرار هذا الوضع، وقللت من تقدير القوات المحتشدة ضدها. ومثلاً، يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يفكر كثيراً في طريقة الحصول على موافقة مجلس الشيوخ على إبرام معاهدة دفاع مع السعودية، على الرغم من أن المعاهدة قد تتضمّن تزويد المملكة بأسلحة متطورة وبنية تحتية نووية مدنية. كذلك، افترضت الولايات المتحدة على نحو خاطئ أن دول الشرق الأوسط الأخرى لن تبدي احتجاجاً أو اعتراضاً فيما تسهم واشنطن في دعم مساعي الرياض لبسط هيمنتها إقليمياً. ومثلاً، اعتبرت واشنطن أن طهران حريصة جداً على تطبيع العلاقات مع الدول العربية ومنشغلة جداً بالاضطرابات الداخلية لدرجة أنها لن تستطيع التدخل في الخطط الأميركية. لكن، لا شك في أن إيران استمرت في الواقع في تقوية وكلائها المسلحين ورعايتهم.
واستكمالاً، يتمثل الخطأ الأكبر في حسابات واشنطن في حساباتها باعتقادها أنها تستطيع تجاهل القضية الفلسطينية. وفي المقابل، عرفت الولايات المتحدة أنه على رغم الوعد بوقف التصعيد، إلا أن حرب الظل بين إيران وإسرائيل بقيت تُطبخْ على نار هادئة. لكنها لم تتوقع أن تندمج هذه الحرب مع القضية الفلسطينية، فتُحدث دماراً واسع النطاق.
وبعد السابع من أكتوبر تبيّن أن معتقدات واشنطن بشأن الشرق الأوسط بعيدة عن الواقع بشكل كبير. وعلى رغم ذلك، لم تعمل الولايات المتحدة حتى الآن على تعديل وجهة نظرها. وعوضاً عن حثّ تل أبيب على شن حملة عسكرية محدودة قد تنقذ سمعة إسرائيل، تمثّلت استجابة واشنطن الشاملة على الحرب في إظهار دعم شبه مطلق لهجوم عسكري وحشي على غزة. وتمثلت النتيجة المترتبة على ذلك بغضب كبير واستياء من إسرائيل والولايات المتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومثلاً، أدان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وزوجته الملكة رانيا العبد الله علناً الحملة العسكرية الإسرائيلية، وانتقدا الدعم الأميركي لها، وأوضحا أن الأردن لا يقف إلى جانب الغرب في هذا الصراع. واستدعت دولتا البحرين والأردن سفيريهما لدى إسرائيل وعلّقتا العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب. وحينما عقد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والزعماء العرب اجتماعاً في عمان في نوفمبر (تشرين الثاني)، لم يتمكنوا حتى من إصدار بيان مشترك روتيني.
ثم حاولت الولايات المتحدة التعويض عن موقفها المساند لإسرائيل من خلال تأييد فترات توقف مؤقتة في القتال من أجل إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة. كذلك، تعاونت مع حكومة قطر التي تربطها علاقات وثيقة مع “حماس”، في تأمين إطلاق سراح الرهائن. وبطريقة موازية، مارست واشنطن ضغوطاً ترمي إلى تسليم الحكم في غزة إلى السلطة الفلسطينية في نهاية الحرب، عوضاً عن إخضاعها لاحتلال إسرائيلي طويل الأمد.
لكن من غير المرجح أن تؤدي هذه الخطوات المتواضعة إلى استقرار المنطقة. وعلى العكس تماماً، فقد تخلق فراغاً سوف تستغله الجهات الفاعلة الأخرى في العالم العربي بغية تحقيق مصالحها الخاصة. لقد جعلت إسرائيل من تدمير “حماس” هدفها المباشر، ولكن في غياب ضغوط أميركية، سوف تسعى أيضاً إلى إقناع مواطنيها والمنطقة بأنها لا تقهر من خلال إلحاق أضرار هائلة بغزة سعياً إلى ردع الخصوم المحتملين. وسوف ترغب مصر والأردن والسلطة الفلسطينية في تقليص المخاطر الداخلية والخارجية التي تهدّد قوة ونفوذ كل منها، لذلك ستحاول الحرص على أن أي دبلوماسية في مرحلة ما بعد الحرب ستناسب مصالحها الاقتصادية وتعزز مكانتها الإقليمية. وبطريقة موازية، سوف تستخدم دول الخليج الصراع للتنافس على النفوذ. إذ تستفيد قطر أصلاً من علاقتها مع “حماس” بهدف تحويل نفسها إلى لاعب إقليمي لا غنى عنه، يتمتع بنفوذ أكبر بقية دول الخليج. وفي الوقت نفسه، تريد تركيا إيجاد دور لها في حل الصراع كي تتمكن من إقناع واشنطن ببيعها طائرات مقاتلة من طراز “أف- 16” والتراجع عن دعم الأكراد في سوريا.
وفي سياق متصل، إن أكثر دولة استفادت بالفعل من الحرب هي إيران، إذ أدى إحياء القضية الفلسطينية إلى تركيز الاهتمام الإقليمي مرة أخرى على بلاد الشام. في الواقع، هنالك “محور المقاومة” بقيادة إيران، الذي يضم إضافة إلى “حماس” و”حزب الله”، نظام الأسد والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا والحوثيين في اليمن. وقد أظهر ذلك المحور أنه قادر على تغيير اتجاه السياسات في الشرق الأوسط، عبر التلاعب بدرجة تصعيد الصراعات الإقليمية وتهدئتها. ومن خلال تقديم الدعم الثابت إلى “حماس”، عززت إيران أيضاً صورتها كمدافع عن الفلسطينيين مما زاد من شعبيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كذلك تعمل طهران على الموازنة بين دعمها لـ”حماس” وعلاقاتها المزدهرة مع العالم العربي من أجل دمج نفسها بشكل كامل في السياسة الإقليمية. بعد وقت قصير من هجمات “حماس”، تحدث الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي هاتفياً مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للمرة الأولى منذ استئناف العلاقات بين الدولتين في مارس (آذار) 2023. ثم سافر رئيسي إلى الرياض في نوفمبر (تشرين ثاني) بدعوة من ولي العهد لحضور ما أسماه المشاركون “قمة عربية إسلامية مشتركة غير عادية”. وهكذا، نجحت طهران في قلب مفهوم المحور العربي الإسرائيلي، الذي سعى في الأصل إلى احتواء إيران، رأساً على عقب.
وبالتالي، تدفع تلك الاتجاهات مجتمعةً المنطقة نحو صراع أوسع نطاقاً. في المقابل، إن انعدام الثقة المتزايد في الولايات المتحدة، وعدم قدرة البلاد على قيادة المنطقة نحو الاستقرار، وغياب أي رؤية مشتركة يمكن الالتفاف حولها، تجعل مختلف الدول تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة القصيرة المدى، متأثرة بالضغوط المتزايدة من الشارع والمخاوف من حرب أوسع. والجدير بالذكر أن هذه المصالح المتضاربة والمتشعبة تطيل أمد الأزمة في المنطقة وتزيد من خطر التصعيد غير المقصود. ومن أجل تجنب الأسوأ، سيتعين على واشنطن إعادة النظر في افتراضاتها الأساسية، وتجديد التزامها تجاه الشرق الأوسط، وصياغة رؤية جديدة للمنطقة.
اتفاق أو لا اتفاق
باتت المهمة الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى واشنطن متمثلة بإنهاء الحرب في غزة. وطالما استمرت إسرائيل في مهاجمة القطاع وقتل المدنيين هناك، وطالما أن الولايات المتحدة لا تبذل جهوداً كبيرة لكبح جماح حليفتها، فسيصل غضب الحكومات والشعوب في الدول العربية إلى درجة تتخطى استعدادهم للامتثال إلى توجيهات الولايات المتحدة وإرشاداتها. ونتيجةً لذلك، يجب على المسؤولين الأميركيين أن يضغطوا إسرائيل كي توقف شن حربٍ على “حماس” تشمل معاقبة المدنيين بشكل جماعي. في الواقع، فحتى 16 نوفمبر الجاري، أدى الصراع في غزة إلى مقتل أكثر من 11 ألف فلسطيني ومنع وصول الغذاء والماء والدواء إلى القطاع. إذاً، يجب على واشنطن أن تجعل إسرائيل تتوقف عن استخدام العنف غير المقيد في غزة، وتضغط عليها للسعي بدلاً من ذلك إلى إيجاد حل سياسي سلمي للقضية الفلسطينية المستمرة منذ عقود.
وبمجرد انتهاء القتال، تستطيع لواشنطن أن تبدأ في تحويل تركيزها نحو المستقبل. وأثناء نهوضها بذلك، ستحتاج إلى تبنّي منظور واقعي. ولكن لن يكون عليها التخلي عن كل ما عملت من أجله قبل السابع من أكتوبر.
إذاً، يتعين على الولايات المتحدة أن ترسم استراتيجية تتمحور حول عقد اتفاق كبير مع السعودية. وعلى الرغم من أن الرياض قد لا تُطبّع العلاقات مع إسرائيل في أي وقت قريب، إلا أنها لا تزال واحدة من الحكومات القليلة في المنطقة التي تحافظ على علاقة جيدة مع كل دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذاً، تملك المملكة دوراً محورياً كي تؤديه كوسيط في المنطقة.
في الواقع، إن الحرب في غزة قد تعزز نفوذ السعودية وأهميتها من خلال منحها فرصة لتحقيق استقرار في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وفي هذا الإطار، شكّلت “القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية” التي ضمت زعماء من مختلف أنحاء العالم العربي، إضافة إلى إيران وتركيا، خطوة أولى في هذا الاتجاه. خلافاً لمصر أو الأردن أو الدول الأخرى التي تتوسط عادةً بين إسرائيل وخصومها، تتمتع السعودية بالمصداقية والعلاقات الإقليمية اللازمة للمساعدة في التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي. ومن أجل تحقيق ذلك، ستعمل السعودية من جهة مع إيران وتركيا، وهما القوتان المهيمنتان [صاحبتا النفوذ وصانعتا القرار] في العالم العربي، ومن جهة أخرى مع إسرائيل عبر الولايات المتحدة، من أجل التوصل إلى إطار واسع لعملية سلام إسرائيلية فلسطينية في سبيل خلق حل سلمي يهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية. وبعد ذلك، ستعمل السعودية وشركاؤها على بناء إطار شامل للأمن الإقليمي ينبغي أن يتضمن قواعد وخطوط حمراء تتفق عليها جميع الأطراف على نطاق واسع. لا شيء سوى اتفاق من ذلك النوع يقدر على ضمان السلام الدائم على حدود إسرائيل، وإغلاق الباب في وجه القوى المتطرفة ومنعها من ممارسة نفوذها بين الفلسطينيين، واحتواء حرب الظل بين إيران وإسرائيل، وكبح جماح محور المقاومة المرتبط بطهران.
وسيبدي السعوديون تردداً بشأن تولي مسؤولية معالجة القضية الفلسطينية. بيد أن مصالح السعودية تكمن في السلام والأمن الإقليميين. ولا تتحقق رؤيتها الاقتصادية الكبرى مع وجود أزمة دائمة في المنطقة. علاوة على ذلك، ما زالت الرياض ترغب في الحفاظ على دورها القيادي إقليمياً وتطمح إلى الاعتراف بها كقوة عظمى على الساحة الدولية. ويتطلب ذلك الأمر دعماً أمريكياً. وكذلك يمكن للأمر نفسه أن يدفع الرياض إلى الاستجابة لنداءات الولايات المتحدة الداعية إلى التوسط في اتفاق سلام.
ومن أجل مساعدة السعودية، يتعين على الولايات المتحدة أن تقدم الدعم الدبلوماسي للرياض كي تنخرط في دبلوماسية واسعة النطاق، بما في ذلك منح الحكومة السعودية الضوء الأخضر في سعيها للحصول على تسيلم إيراني بصفقة تحل القضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، سيتعين على واشنطن حشد حلفائها العرب الآخرين لدعم الرياض أيضاً. كذلك، ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة السعي لإبرام الاتفاق الدفاعي الذي طُرِحَ على الطاولة مع الرياض قبل السابع من أكتوبر. في المقابل، لم تعد واشنطن قادرة على المطالبة بالاعتراف الفوري بدولة إسرائيل كشرط مسبق. عوضاً عن ذلك، على الولايات المتحدة أن تطلب من السعودية أن تقود عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. وفي خضمّ تلك العملية، قد يغدو مستطاعاً التوصل إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبينما تقدّم السعودية اقتراح سلام لإسرائيل والأراضي الفلسطينية، سيتعين عليها أن تثبت قدرتها على التشاور مع جيرانها في الخليج والنظر في طموحاتهم ومخاوفهم الأمنية بشكل أكثر فاعلية. وقد يتطلب ذلك أن تبذل الرياض طاقةً وجهوداً دبلوماسية قد تكون مترددة حيالها. ولكن إذا نجحت في تسهيل الطريق نحو اتفاق إسرائيلي فلسطيني وتحقيق درجة أكبر من الأمن الإقليمي، فسوف تحصل على الثقل الدبلوماسي الذي تتوق إليه. وفي الوقت نفسه، من شأن اتفاق دفاعي مع الولايات المتحدة أن يزود المملكة بالقدرات العسكرية التي تحتاج إليها من أجل تعزيز مكانتها باعتبارها اللاعب الاقتصادي والسياسي الأهم في الشرق الأوسط.
القيود خير من الاحتواء
يشكل حل القضية الفلسطينية خطوة حاسمة وضرورية نحو خلق شرق أوسط مستقر. لكنه ليس التحدي الوحيد الذي يواجه المنطقة. وفي سياق أي صفقة شاملة، ستحتاج واشنطن إلى خفض التوترات مع طهران والاستفادة من اتفاقها مع الرياض بغية تقييد طموحات إيران. في المقابل، وبحد ذاته، قد يؤدي الاتفاق مع الرياض إلى جعل ذلك بعيد المنال.
هناك أسباب كثيرة قد تدفع إيران إلى الاستجابة بطريقة سيئة للاتفاق الأميركي السعودي. في الواقع، قد تشكّل كمية ونوعية الأسلحة التي ستبدأ في التدفق من الولايات المتحدة إلى السعودية، مثلاً، مصدراً للقلق بالنسبة إلى طهران. فضلاً عن ذلك، ستنظر إيران إلى البرنامج النووي المدني السعودي على أنه عدواني بطبيعته، بغض النظر عن عدد القيود التي تفرضها واشنطن عليه. وستنشأ لدى إيران مخاوف أيضاً من أن تؤدي معاهدة الدفاع الأميركية السعودية إلى توسيع الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. وبالتالي، قد ترد طهران على الاتفاق الأميركي السعودي من خلال زيادة تصنيع الأسلحة الخاصة بها، وشن مزيد من الهجمات بالوكالة، وتطوير برنامجها النووي. (وبطريقة موازية، قد تبدأ مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة في السعي إلى الحصول على قدرات نووية أيضاً).
ومن حسن حظ إيران أن الرياض لا تريد إنهاء الانفراجة في العلاقات مع طهران، لا سيما بعد أن تبيّنت فائدتها الكبيرة للبلاد. فمنذ أن استأنفت السعودية علاقاتها مع إيران، توقف الحوثيون المدعومون من طهران في اليمن عن مهاجمة الأراضي السعودية. وبعد سنوات من الحرب الوحشية في اليمن، نجحت الرياض وطهران معاً في تنفيذ وقف ثابت لإطلاق النار. والآن، تتخذ الأطراف اليمنية خطوات نحو التوصل إلى اتفاق دائم. ومع هذا الأمن الذي استتبّ حديثاً، بات سهلاً على السعودية السعي وراء أهدافها الاقتصادية النبيلة عن طريق إزالة خطر الهجمات الصاروخية الحوثية على المصافي السعودية وغيرها من البنى التحتية. ونتيجةً لذلك، يبدو أن الرياض لم تعد تتفق مع رؤية إسرائيل المتمثلة في إنشاء محور عسكري واستخباراتي مشترك يرمي إلى دحر نفوذ إيران الإقليمي. في الواقع، منذ مارس (آذار) 2023، عملت إيران والسعودية على تطبيع العلاقات بشكل كامل من خلال فتح السفارات، وتسهيل السفر بين البلدين، ووضع برامج للتبادلات الثقافية. وفي العام 2022، نسجت إيران بالفعل علاقات كاملة مع الكويت والإمارات العربية المتحدة. وتجري محادثات مع مصر والأردن لاستئناف العلاقات معهما أيضاً.
في المقابل، سيظل اتفاق الدفاع الأميركي السعودي مصدر قلق لطهران. لكن من غير المرجح أن تتفاعل بشكل سلبي معه ما لم يؤثر على علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الرياض وبقية دول الخليج، وإذا لم يؤدِ إلى نشوء ترتيبات أمنية إقليمية تهدف إلى إضعاف قوتها. ومن خلال إشراك إيران في القضايا الثنائية والإقليمية في الوقت الذي تسعى فيه إلى التوصل إلى صفقة كبرى مع الولايات المتحدة، يمكن للسعودية أن تخفض المقاومة الإيرانية لأي صفقة أميركية، بل تستطيع الرياض حتى ان تفتح سبلاً لضمان موافقة طهران على نظام إقليمي جديد.
في ملمح متصل، قد لا توافق واشنطن على جهود الرياض الرامية إلى الحفاظ على دعم طهران من طريق استخدام التنازلات الدبلوماسية والمنافع الاقتصادية. إنّ إيران أحد الخصوم الرئيسين للولايات المتحدة، والعدو الألد لإسرائيل. لكن، لا تستطيع الولايات المتحدة وقف تطبيع العلاقات بين إيران وجيرانها العرب. ومع تزايد قوة محور المقاومة الإيراني، قررت السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة أنه يجب دمج طهران في المنطقة حفاظاً على أمنهما، إذ تعتقد الدولتان أن بإمكانهما حماية أمنهما بشكل أفضل من خلال إشراك إيران ونسج علاقات ثنائية تربط مصالح طهران مع مصالحهما.
ليس من المفترض أن تحاول الولايات المتحدة عرقلة هذا التطبيع. إذا نجح النهج الذي يتبناه العالم العربي، فسوف يخدم المصالح الأميركية من خلال تهدئة التوترات الإقليمية، ومنح الولايات المتحدة المساحة التي تحتاج إليها من أجل توجيه تركيزها نحو آسيا وأوروبا. ولذلك، يتعين على الولايات المتحدة أن تستخدم النظام الجديد في الشرق الأوسط لاحتواء طموحات إيران، عوضاً عن أن تحاول عبثاً إنشاء تحالف مناهض لطهران. ومن أجل تحقيق ذلك، ينبغي على واشنطن تشجيع السعودية ودول الخليج الأخرى على تعميق ارتباطها الدبلوماسي والاقتصادي مع إيران بهدف ضمان موافقة طهران على تسوية دائمة للقضية الفلسطينية ووقف التصعيد في بلاد الشام. في الحقيقة، سيكون من الصعب التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية من دون موافقة إيرانية ضمنية في الأقل، وبالتالي، فأن أي اتفاق سيكون أكثر ديمومة مع وجود هذه الموافقة. واستطراداً، من شأن حل مماثل أن يمنع إيران من القدرة على استغلال هذه القضية، ويقلل تأثير الأصوات الفلسطينية المتطرفة، ويخلق ظروفاً سياسية ملائمة تتيح للعالم العربي إقامة علاقات أفضل مع إسرائيل.
العودة من حافة الهاوية
ثمة قضية واحدة ينعقد عليها إجماع مستمر من إسرائيل والولايات المتحدة ومعظم الدول العربية، تتمثل بالبرنامج النووي الإيراني. وتعتقد تلك الدول جميعها أن التوسع المستمر للبرنامج يعتبر من أكثر التطورات زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط. ومع اقتراب طهران من القدرة على إنتاج أسلحة نووية، قد تكثف إسرائيل هجماتها السرية على إيران. وإذا بدا أن طهران غدت على أعتاب التسلح النووي، فقد تشن إسرائيل هجوماً واضحاً وفورياً على تلك البلاد. واستطراداً، من شأن ذلك الهجوم أن يجر الولايات المتحدة سريعاً إلى صراع مباشر. وإذا وقعت الرياض وواشنطن على معاهدة دفاعية، فقد تصبح السعودية أيضاً طرفاً في أي حرب. عندئذ ستندلع تلك الحرب في بلاد الشام، والخليج، مع عواقب مدمرة على كلتا المنطقتين والاقتصاد العالمي.
لقد حاولت إيران والولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق نووي جديد منذ أن تولى بايدن منصبه في بداية عام 2021، لكنهما فشلتا في ذلك. للوهلة الأولى، قد يبدو أن هجمات 7 أكتوبر تجعل التوصل إلى اتفاق جديد أمراً شبه مستحيل. في المقابل، لقد عملت طهران وواشنطن بعناية على التخفيف من حدة التصعيد قبل 7 أكتوبر، وظل توافقهما الضمني هذا ثابتاً إلى حد ما. ومثلاً، يبدو أن الاتفاق النووي غير الرسمي لا يزال سارياً. وعلى رغم أن وكلاء إيران أطلقوا صواريخ على قواعد أميركية، إلا إنه لا يوج ما يشير إلى أن أي من الجانبين يرغب في قتال الطرف الآخر، ويتمثل الهدف من تلك الهجمات بإظهار الدعم لغزة وتحذير الولايات المتحدة من إفشال الاتفاق غير الرسمي، وليس إلحاق أضرار حقيقية. وعلى نحو مماثل، تتمحور ضربات واشنطن المتفرقة حول اتخاذ موقف [إظهار أن الولايات المتحدة لديها موقف من ضربات وكلاء إيران]، ويجري تنفيذها بهدف إرضاء الجماهير المحلية التي تطالب بالرد على الهجمات الإيرانية. بالنسبة إلى واشنطن، يتكفل التصعيد مع إيران بإبعاد الموارد العسكرية والدبلوماسية عما تتطلبه منافستها مع بكين وموسكو. في الوقت نفسه، لا يرغب قادة إيران في المخاطرة بصراع قد يدمر اقتصادهم، وربما يؤدي إلى إسقاط نظامهم.
ومن المرجح أن يستمر هذا الهدوء النسبي على الأقل حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2024. لكن العودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى منصبه تعني أنه ليس لدى طهران وواشنطن متسع من الوقت للتوصل إلى اتفاق جديد. وحتى إذا أعيد انتخاب بايدن، يتعيّن على الدولتين حل خلافاتهما النووية قبل أكتوبر 2025، فبعد هذا التاريخ لن تتمكّن أي دولة موقعة على الاتفاق النووي لعام 2015 (الذي انسحب منه ترمب) من إعادة فرض العقوبات التي وافقت عليها الأمم المتحدة بموجب ذلك الاتفاق. وإذا لم تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة قبل ذلك التاريخ، فقد لا يستطيعون فرضها مرة أخرى على الإطلاق. ومن المرجح أن تستخدم الصين وروسيا حق النقض ضد أي قيود مستقبلية، علماً أنها يجب أن تمر عبر مجلس الأمن الدولي. في المقابل، حذرت إيران حذرت من أنها سوف تنسحب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في حال اختار الغرب إعادة فرض تلك القيود. وينطوي ذلك التحذير على إشارة واضحة للغاية مفادها أن طهران تنوي تطوير سلاح نووي، ومن شأن ذلك أن يعجل بحدوث أزمة دولية كبيرة. إذاً، تسعى واشنطن وحلفاؤها إلى التوصل إلى اتفاق جديد قبل أن يتخذوا قرارهم [بشأن إعادة فرض القيود].
ومن أجل إبرام اتفاق جديد، يجب على إيران والولايات المتحدة استئناف محادثاتهما من حيث توقفت سابقاً في فيينا في أغسطس (آب) 2022، وهي المرة الأخيرة التي أجرى فيها البلدان محادثات نووية. وعلى الرغم من القتال الدائر في غزة، لا تزال أهدافهما هي نفسها. إذ تريد الولايات المتحدة الحد من كمية ونسبة نقاء اليورانيوم الذي يمكن لإيران تخصيبه، وبالتالي إطالة المدة التي تحتاج إليها طهران من أجل إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي، وضمان خضوع برنامج إيران النووي لمراقبة دولية صارمة. وفي المقابل، تستمر حاجة إيران إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية الخانقة المفروضة عليها.
ولكن خلافاً لما حدث عام 2022، يجب على الولايات المتحدة أن تنسّق بشكل وثيق بين محادثاتها النووية والجهود التي تبذلها السعودية من أجل الحد من التوترات مع إيران. ففي النهاية، هذان الأمران مرتبطان، فالنجاح في المحادثات النووية التي تقلل التوترات بين إيران والولايات المتحدة سيساعد في تحقيق النجاح في المحادثات بين السعودية وإيران. وفي الوقت نفسه، فإن نجاح المحادثات بين الرياض وطهران سيعطي إيران أسباباً إضافية كي تثق في الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، خصوصاً إذا شجعت واشنطن مثل هذه المحادثات. وسيتعين على الولايات المتحدة التأكد من أن أي اتفاق نووي تعقده مع السعودية سوف يتضمن قيوداً وضوابط شبيهة بتلك المنصوص عليها في الاتفاق الذي تبرمه مع إيران. إذا لم يحصل ذلك، فستدخل الدولتان في دوامة من التصعيد، ذلك إن أي دولة تُمنح قدرات نووية أقل ستبذل قصارى جهدها لمجاراة تلك التي تملك قدرات نووية أكبر.
اللحاق بالركب
على المدى القريب، يجب أن تركز استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط على إنهاء الحرب في غزة وإيجاد سبيل نحو الاستقرار الإقليمي. لكن على المدى الطويل، تحتاج الولايات المتحدة إلى توسيع نطاق تركيزها إلى ما هو أبعد من إيران والفلسطينيين. ويجب على سياساتها في الشرق الأوسط أن تتعامل أيضاً مع التحديات التي تفرضها بكين، المنافس الدولي الأبرز لواشنطن.
خلال العقد الماضي، تنامى الوجود الاقتصادي للصين في الشرق الأوسط بشكل ملحوظ. إذ تعتمد بكين بشكل كبير على الخليج في الحصول على إمداداتها من الطاقة، فضلاً عن أنها استخدمت الخليج كبوابة لشبكاتها التجارية والاستثمارية المتوسعة في أفريقيا. في المقابل، قدمت الصين للسعودية والإمارات العربية المتحدة القدرة على الوصول إلى المعرفة (كتلك المتعلقة مثلاً بالتكنولوجيات الأساسية التي تستند إليها الطاقة الخضراء)، التي لا يمكنهما الحصول عليها من الغرب، مما ساعد في دعم عملية التنمية في الخليج. كذلك، نهضت الصين باستثمارات مالية مباشرة كبيرة في منطقة الخليج، خصوصاً داخل السعودية. وفي عهد الرئيس الصيني شي جينبينغ، أُدرجت هذه العلاقة التجارية ضمن “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. وقد جعل شي تعزيز هذه العلاقات جزءاً من رده على جهود واشنطن الرامية إلى تقييد بكين.
في ذلك الصدد، لاحظت الولايات المتحدة علاقة الصين المتوسعة مع دول الشرق الأوسط، وأولتها اهتماماً كبيراً بشكل خاص حينما أدّى شي دور الوسيط في التقارب بين إيران والسعودية. في الواقع، تعتقد واشنطن أن الصين تريد استخدام نفوذها الاقتصادي في الشرق الأوسط كي تصبح قوة سياسية وأمنية في المنطقة. وتشكل معاهدة الدفاع الأميركية السعودية رداً على ذلك، لأنها بمثابة وسيلة لوقف انجرار الرياض إلى فلك الصين. واستطراداً، ترمي خطط واشنطن لإنشاء ممر تجاري عبر الشرق الأوسط إلى تقويض مخطط بكين. ومن شأن مثل هذا الممر أن يفيد المنطقة اقتصادياً، لكن هدفه الأساسي يتلخص في مواجهة “مبادرة الحزام والطريق” من خلال جعل مستقبل المنطقة الاقتصادي مرتبطاً بالهند وأوروبا. وبطريقة موازية، سيؤدي هذا الممر أيضاً إلى ربط الإمارات العربية المتحدة والسعودية بإسرائيل ودمج الاقتصاد الإسرائيلي في اقتصاد الشرق الأوسط.
في مقلب مغاير، استجابت بكين بحذر لمقترحات واشنطن. وحينما تحدثت الولايات المتحدة عن إنشاء ممر اقتصادي هندي شرق أوسطي أوروبي، ردت الصين بإنها سترحب بالممر شريطة ألا يتحوّل إلى “أداة جيوسياسية”، ولكن من الواضح أنّ هذا ما تريد الولايات المتحدة تحويله إليه بالضبط. ومن شأن الممر الاقتصادي أن يقسم الشرق الأوسط بين أولئك الذين يشكلون جزءاً منه وأولئك الذين لا يفعلون، ما قد يعتبر نظاماً إقصائياً يتعارض مع رؤية الصين الإقليمية. وتعلم بكين أن جهود إدارة بايدن الرامية إلى تيسير التطبيع الإسرائيلي السعودي يشكل محاولة لمضاهاة نجاح الصين مع الإيرانيين والسعوديين. وعلى الرغم من أن الصين ليست حالياً في وضع يسمح لها بعد بإحباط مخططات الولايات المتحدة، لكن لا دلائل تشير إلى أنها ستبطئ من مشاركتها الاقتصادية في المنطقة. وفي ظل الفراغ الجيوسياسي الحالي، سوف تستمر هذه المشاركة في التوسع والتعمق.
وفي المقابل، لا تريد السعودية الاختيار بين الصين والولايات المتحدة. ولكن، ربما ما زال من المحتمل أن توافق الرياض على خطط واشنطن لأنها ستعزز طموحات السعودية كقوة عظمى من خلال تقوية موقعها الإقليمي وتوسيع نفوذها الاقتصادي. وبطريقة موازية، قد تسهم هذه الخطط في تحسين اقتصادات الدول الإقليمية الأخرى أيضاً. ونتيجةً لذلك فإن الدول العربية التي قد تبدي عدائية تجاه فكرة شرق أوسط محوره السعودية يمكن أن توافق على مقترحات الولايات المتحدة، وسيؤدي ذلك إلى مزيد من الاستقرار داخل دول الشرق الأوسط، وبين بعضها البعض أيضاً.
ولكن من أجل زيادة احتمال موافقة كل دولة على النظام الأميركي المقترح، قد يتعين على الولايات المتحدة الذهاب إلى ما هو أبعد من ضمان أن نظامها يحقق ازدهاراً واسع النطاق. سيتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تتبنى رؤية لأمن الشرق الأوسط تتجنب تقسيم المنطقة إلى معسكرات وتفسح المجال أمام جميع الأطراف الفاعلة. ويتطلب ذلك من الولايات المتحدة السماح للدول الواقعة في ممرها الاقتصادي المتصور بالانضمام إلى ترتيبات اقتصادية أخرى في الوقت نفسه. وإضافة إلى ذلك، تنطوي هذه الرؤية على ضرورة عقد صفقة كبرى لتعزيز أمن إسرائيل، والدول العربية الأخرى، وحتى إيران. ومن الممكن توفير هذا الأمن جزئياً عبر اتفاق نووي جديد واتفاق إقليمي بين إيران والسعودية. لكن يجب على الولايات المتحدة أن تفكر في عقد اتفاقات إقليمية غير تلك التي أبرمتها مع السعودية. وقد تسهم تلك الاتفاقات في توسيع نطاق الضمانات الأمنية الأميركية كي تشمل دولاً أخرى، ولكن عليها أن تكون أيضاً مصحوبةً بقيود محددة وخطوط حمراء. ولا يمكن لواشنطن أن تستمر ببساطة في إمداد الحلفاء الإقليميين بالأسلحة، على غرار ما فعلت قبل السابع من أكتوبر، إذ إن هذه السياسة، شجّعت على سباق تسلح إقليمي ونشوب حرب، عوضاً عن أن تعمل على تعزيز الاستقرار.
صنع السلام
مهما فعلت واشنطن، فمن المتوقع ان تواجه الرؤية التي رسمتها للشرق الأوسط نوعاً من المقاومة. ولا شك في أن إيران ستظل معادية لإسرائيل والولايات المتحدة. وستحسب إسرائيل وتركيا أيضاً ما الذي سيعنيه تمتّع السعودية بهذا القدر من القوة وكيف ستتأثر مصالحهما بالتزام الولايات المتحدة تجاه السعوديين. وسوف تتصرفان وفقاً لذلك، وعلى الأرجح بطرق لا يمكن لواشنطن أن تتوقعها.
وعلى رغم أن تلك البلدان كلها سوف ترغب في زيادة قوتها، فإن أولويتها القصوى تتجسد في الحفاظ على استقرار أنظمتها. إذ ترغب في الانضمام إلى رؤية تنهي الصراعات المحلية، وتعزز النمو الاقتصادي، وتحد من الضغوط الداخلية. وبالتالي، في حال جرى التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والسعودية، فلسوف تقبل هذه الدول به في نهاية المطاف.
ومع ذلك، من أجل إنجاح هذه الصفقة، ستحتاج الولايات المتحدة إلى إقناع إسرائيل بالتوقف عن الانخراط في ما يعتبره كثيرون عقاباً جماعياً للمدنيين الفلسطينيين. ويتعين على واشنطن أن تعالج محنة الفلسطينيين على نطاق أوسع، عوضاً عن تجاهل قضيتهم، وذلك من خلال المساعدة في خلق مسار موثوق نحو دولة فلسطينية مستقبلية. ويجب على صفقة واشنطن أن تتعامل مع التحدي الذي تمثله إيران من خلال تجميد برنامجها النووي وتقييد شبكتها من العملاء الإقليميين، سواء من طريق الردع أو اتخاذ خطوات لتخفيف التوترات. وبطريقة موازية، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل على إنشاء ممر تجاري يساعد في تنمية اقتصادات الشرق الأوسط. تشكل تلك الأمور السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وتحرير واشنطن من مسؤولياتها الحالية.
* ماريا فانتابي، رئيسة “برنامج البحر المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا” في مؤسسة “إنستيتيو أفاري إنترنازيونالي” في روما.
** فالي نصر، أستاذ في “قسم ماجد قدوري عن مادة العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط” ضمن “كلية الدراسات الدولية المتقدمة” التابعة لجامعة جونز هوبكنز. شغل منصب مستشار متقدم للمثل الأميركي الخاص لأفغانستان وباكستان بين عامي 2009 و2001.
فورين أفيرز نوفمبر (تشرين ثاني)/ ديسمبر (كانون أول) 2023
المصدر: اندبندنت عربية
الولايات المتحدة كانت تسيرا باستراتيجيتها نحو شرق أوسط جديد بمسيرة التطبيع العربي بين السعودية والكيان الصhيوني وعقدت صفقة أسلحة مع السعودية لتمرير ذلك والممر الاقتصادي ، ولكن حرب غزة يتطلب منها إعادة النظر بالخطة وفق المعطيات الجديدة ولكن لن تخرج عن أساسيات الخطة الأساسية .