أثار موت الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية السورية علي دوبا عن 89 عاما، قبل أيام، ذكريات مريرة في نفوس سوريين كثيرين، سواء الذين تأثّروا بشكل مباشر من بطشه في أثناء عمله في أجهزة الأمن السورية، أو كل من اكتوى بنيران السياسات الأمنية للنظام السوري، وهم بالملايين، لما لدوبا من دور أساسي في تأسيس سياسات القمع والتوحّش في سورية.
كان علي دوبا أحد الأركان الأساسية في حكم حافظ الأسد، وقد اضطلع بأدوارٍ أمنيةٍ بعد انقلاب الأخير مباشرة، حيث جرى تعيينه رئيساً لشعبة المخابرات العسكرية في دمشق في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970، أي في الأيام الأولى للانقلاب، ما يعني أنه كان أحد مهندسي الانقلاب وشريكا في التخطيط لمستقبل الحكم في سورية.
أراد حافظ الأسد تأسيس منظومة رعب سندا لحكمه، وقد أعطى لهذا الأمر أهمية استراتيجية، لاعتقاده أن استمراريته في السلطة تستلزم تشكيل منظومة خوفٍ عبر آليات ثابتة، وتكون هي جوهر النظام ومشغّله الأساسي، وتأخذ أشكالا مؤسّسية ويجرى دعمها وحمايتها بالقوانين وبميزانياتٍ مفتوحة ومستقلّة عن ميزانيات الدولة، ومنحها سلطةً فوق سلطة القوانين تبطش كيفما شاء، من دون أن يتعرّض أيٌّ من أعضائها لأي مساءلة. باختصار، أراد تأسيس جسم موازٍ للدولة وغير خاضع لها.
كان علي دوبا أول من ساهم في تأسيس مؤسّسة الرعب هذه الفالتة من العقاب، وقد جرى تأسيسها على خطوط الصّدع المجتمعية في سورية. وفي وقت كان الأسد ومنظومته وأعلامه يتغنون بالوحدة العربية، كان المجتمع السوري يتشقّق وتنغلق مكوّناته، في حين كانت الأرياف تتّجه أكثر فأكثر صوب التكوّر ضمن بنى عشائرية، قبلية وعائلية، حتى إن انتخابات حزب البعث الداخلية ومجلس الشعب صارت تعتمد هذا المبدأ، وصارت هناك عشائر في خانة الموالاة وأخرى مغضوب عليها وممنوع عنها الحصول على نصيبٍ من الموارد الوطنية، مثل الوظائف والمناصب.
قامت فلسفة الحكم على توريط جزءٍ من المجتمع السوري مع المنظومة وربطه مصلحيا وعقائديا ومصيريا، وإزاحة الجزء الآخر وتهميشه وإخضاعه بالقوة، كان العنف مجّانيا، فقط لتأكيد الإخضاع وربما لتدريب المنظومة على نمطٍ من التعامل سيدوم ويدوم بعيدا عن حركة المتغيرات المحيطة.
اكتملت في التسعينيات ورشة إنشاء المنظومة، وتحول أركانها الى البحث عن مصادر للإثراء. اطمأنّ حافظ الأسد، في ذلك الوقت، لثبات سلطاته، وبدأ بتجهيز ابنه باسل ومن بعده بشّار، حيث سيجد هذا الأخير المنظومة جاهزة وتعمل تلقائيا، لا منافسين ولا من يرغبون في قلب الأوضاع. أصبحت المنظومة تعكس القطاعات والفئات التي تمثلها، الفئات التي ربطت مصالحها بالنظام، سواء عن أسباب عقائدية أو أسباب مصلحية.
لم تعد المنظومة اليوم متأثّرة بموت أحد أركانها أو إزاحته، مهما كانت درجة تأثيره أو فاعليّته، وكان مؤسّسوها قد قبلوا أن يكونوا عناصر مرحلةٍ مقابل حصولهم على عوائد، مالية بالتحديد. لذا برز أبناؤهم وبرزت معهم ظاهرة الشباب “العصامي”، أبناء علي دوبا ومحمد الخولي وبهجت سليمان، قبلوا بهذا الدور وتعاطوا معه بإيجابية، إلى درجة أنهم أشرفوا على تدريب بشّار لتسلم الحكم، وأطلق عليهم حافظ الأسد ألقابا، من نوع” قلب الأسد” على محمد ناصيف، الجزّار الشهير، والنمر وغيرها، كناية على شجاعتهم، التي لم تكن على جبهات الجولان، بل بلحم السوريين ودمهم، وكيف لا يكونون أسودا على شعب أعزل وفي دولةٍ لا مصدّات ولا روادع فيها لأمثالهم.
هل كانت المنظومة محكمة؟ ثبت عند اندلاع الثورة وجود خللٍ في جغرافية انتشارها، فقد تركّزت في المدن الكبرى وفي مناطق معينة، وخلل في حساباتها، وكان الاعتقاد أن التمرّد في سورية، إن حصل، سيكون في الغالب تمرّدا محدود النطاق، ضمن محافظة، إذ يبدو أن المنظومة وضعت أحداث حماة 1982 مقياسا للثورات الممكنة، أو قد تكون على شكل نمطٍ أخّر ظهور بؤر تمرّد ضمن نطاق جغرافي أوسع، لكنها صغيرة وقابلة للاحتواء بالأدوات والأساليب ذاتها. ولكن تبين أن هذه المنظومة التي اعتمدت، إضافة إلى نواتها الصلبة، الأجهزة الأمنية المركزية، على أذرع، لم تكن بالقوة والصلابة نفسيهما، مثل كوادر حزب البعث واتحاد الطلبة والنقابات، التي كان دورها ينحصر في كتابة التقارير الاستخبارية، وشكلت أعين النظام التي يتلصّص بها على التكتل الآخر الأكبر عددا والأكثر تنوّعا والرافض للخضوع، غير أن هذه الأذرع كانت الأسرع في السقوط والتفكّك.
أسّست منظومة الرعب، والتي يمكن اعتبار 1970 عام تأسيسها، للخراب الحالي في سورية، بعد أن تبنّت خيارات انتحارية من نوع سورية الأسد، والأسد إلى الأبد، والأسد أو نحرق البلد، قامت خياراتهم على قاعدة إما قاتل أو مقتول، ونزعوا السياسة بالكامل عن المجال السوري، حوّلوا اللعبة إلى شكل من أشكال الغلبة الداخلية. لذا لم يكن بإمكانهم، حين إدارتهم سياسات المواجهة مع الثورة، سوى الانتقال سريعا إلى منطق الحرب الأهلية، وكانت هذه المنظومة قد وثّقت ارتباطها إقليميا بالقوى الشيعية في المنطقة، ما يؤكّد أن حساباتهم كانت منذ البداية تندرج في سياق الغلبة.
مات علي دوبا، رحل طاغيةٌ آخر، لكن في سورية اليوم آلاف الطغاة الذين تخرّجوا من مدرسة منظومة الرعب، المدرسة التي سخّرت أدوات دولة السوريين ومواردها لقتلهم واضطهادهم.
المصدر: العربي الجديد