عرّى الفراغ الذي تركه اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، أكثر وأكثر، العملية السياسية في العراق، بكل أحزابها وميلشياتها، ليظهر بشكل، لا لبس فيه أمام العراقيين، عجزها وارتباكها وتخبطها في اتخاذ أي قرار من دون العودة إلى الطرف الإيراني. ولعل ما يحدث منذ مدة من تجاذبات لاختيار رئيس الوزراء هو المشهد الأبرز الذي يعكس الانقسامات والإرباك، وعدم القدرة على البت بهذا الأمر، كما حصل مع تكليف محمد إياد علاوي، ويحدث اليوم مع عدنان الزرفي، فهذه الأحزاب توافقت سابقا على تعيين عادل عبد المهدي في ما بينها، وهو أمر غير دستوري، لكنها رفضت علاوي بعد التوافق عليه، بحجة عدم قبوله بحصة معينة لهم من الوزارات، وترفع اليوم بوجه رئيس الجمهورية، برهم صالح، مرة قضية مرشح الكتلة الكبرى وأخرى اختيار رئيس وزراء عن طريق لجنة سداسية تسمّي هي نفسها أعضاءها، في حين أقرّت المحكمة الدستورية تكليف رئيس الجمهورية رئيس الوزراء الجديد.
وفي وقتٍ توفرت فيه فرصة لهذه الأحزاب، لكي تقفز على مناسبة عدم وجود مسؤول إيراني أو لبناني، وتختار بنفسها رئيس وزراء بالتشاور في ما بينها، لكي تظهر أمام الشعب، ولو مرة واحدة، أنها قادرة على القيام بهذه المهمة بدون مساعدة خارجية، وأن فيها رجال دولة، لكنها وبدلا من ذلك طلبت نجدة المرشد الإيراني، خامنئي، الذي أرسل أمين عام الأمن القومي الإيراني، الأميرال علي شامخاني، بيد أن هذا لم يتحمّس لاختيار شخصيةٍ لمنصب رئيس الوزراء، بالنظر إلى الوضع الإيراني المتأزم منذ اغتيال سليماني، وظهور مرض كورونا، ولم يتمكن من “احتواء” تطرّف بعض المليشيات ومزايداتها بشأن مرشحين للمنصب، بل اكتفى بالحذر، ونصح الحاضرين بتوحيد صفوفهم، ليظهر أن زيارته هدفت إلى استمرار إيران بالتصدير وجني الأموال، وعدم إيقاف التجارة نحو العراق!
وجاء تنصيب مقتدى الصدر في مؤتمر قم “قائدا للمقاومة” استفزازا لخصومه من البيت الشيعي،
المتصارع والمتنافس للهيمنة على العملية السياسية، وكذلك تصريحه “أن أي حكومة لا تشكل إلا بموافقتي”. بينما قدّم تياره “سائرون” أسوأ أداء لكتلة سياسية، بسبب تقلباته في المواقف من ثورة تشرين، ليقضي بشكل كبير على صورته وشعبيته لدى أتباعه، ولدى العراقيين بشكل عام. في حين كان يكفي سليماني نظرة أو إشارة وكلمة فقط، لكي يسود الصمت، ويوافق الجميع على الانصياع للوحدة أو تعيين الشخص المطلوب “بالمواصفات الملائمة”، وبالتوافق مع الجانب الأميركي لرئاسة الوزراء، أو تشكيل الحكومة وإعطاء المناصب لهذا وذاك، ومن دون أن تنبس أحزاب وكتل العملية السياسية بمجرد كلمة عن اختياره. وقد أقرّ عضو “دولة القانون”، حيدر اللامي، عبر قناة الحرة، بأن “الوضع متخلخل” في العراق بعد مقتل سليماني.
أما المليشيات المسلحة التي أرادت لها إيران أن تكون أداة وذراعا للدفاع عنها، وعن النظام الذي تحميه، فهي الأخرى باتت يتيمة بعد سليماني ومساعده أبو مهدي المهندس، فاختلفت حول زعامة البيت الشيعي، وخصوصا بين كتلتي مقتدى الصدر وهادي العامري من جهة ونوري المالكي وعمّار الحكيم وقيس الخزعلي من جهة أخرى، وبسرعة انفرط عقدها. وربما لن يتأخر القتال بين من يريد الهيمنة على الزعامة ونيل الحظوة لدى الولي الفقيه والفصائل التي ترفض ذلك، والتجأت لفك ارتباطها استباقيا من هيئة الحشد الشعبي، تميزا عن المليشيات الولائية المرتبطة بخامئني، والطلب بالانتماء لوزارة الدفاع. وما إطلاق أتباع إيران الصواريخ على القصر الحكومي لرئيس الجمهورية، برهم صالح، لإجباره على تعيين شخص موالٍ لإيران لمنصب رئاسة الوزراء الا فلتانا أمنيا، وتعبيرا عن فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وتجاوزا صارخا للقانون والدستور. وعلى الرغم من ذلك، لم يصدر عن أمين عام الهيئة، فالح الفياض، أي تصريح او رد فعل على ما يحدث، وكأن الأمر لا يعنيه مطلقا. كما لم يصدر أي بيان عن رئيس الوزراء المقال، والمستمر بتصريف أعمال الحكومة مؤقتا، عادل عبد المهدي.
وبينما تحاول أحزاب العملية السياسية وميلشياتها رأب التصدّعات التي لن تتوقف هنا وهناك من دون جدوى، بنى المتظاهرون، منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ويبنون في كل لحظة، حتمية انتصار الثورة الوطنية التي تفجرت لاسترداد العراق وإعادته لأهله، وانتزاعه بقوة ممن استباحه. بناء شيد بالتضحيات والصمود وعدم التراجع، لا عن الأرض ولا عن الهدف، سيكون من الصعب تهديمه والمساس به، على الرغم من حسابات موازين القوى، ودعم الولايات المتحدة وإيران. لقد تمكّن المتظاهرون من احتواء كل الهجمات، وأفشلوا كل رسائل حكومة المنطقة الخضراء، العسكرية والسلمية المخادعة بالوعود الوردية. يحللون آنيا، وبدقة متناهية، المشهد الثوري الذي يعيشونه، ويتناقشون في سبل المواجهة وينفذون على الأرض ما تتطلبه معركتهم السلمية لاسترداد الوطن، مدركين، بشكل كبير، سياقات العملية السياسية وشخوصها، وما يجري من تطورات محلية ودولية. يردّون جماعيا بأجوبة هي الاذكى على الإجراءات الحكومية ضدهم، ترافقها هتافات وشعارات تمحي قوة تعبيرها سلطة الطرف الآخر، تماما ليبدو مشلولا غير قادر على اللحاق بهذه العقول، وهذه المواجهة الاستثنائية والفريدة على كل الأصعدة، ليثبت للجميع وللعالم أنها ثورة منتصرة، هلت بشائرها منذ البداية، في عيون وصدور وأيادي وضمائر من نزل يحمل راية العراق، ويهتف عاش العراق.
هذه العملية السياسية المحجورة في حدود عدة كيلومترات من الخضراء لن تصمد، ولن تتمكن من الانتصار على شباب وشابات معتصمين بحبل الوطن، أجيال كلها حيوية ونشاط، شهر بعد آخر على الأرصفة والشوارع والساحات يلهجون باسم العراق، بعزم يثبتون، صامدين يتحدّون الآلة العسكرية ويستهزئون بها، يضحكون ويغنون تحت الأمطار، يرسمون لمستقبل الوطن لوحاتٍ، ويؤلفون أغاني ويسجلون أفلاما، ويقدمون مسرحيات عن بلدٍ جميل بنوه بمخيلاتهم، يحلمون به ويقسمون أن يبنوه بأياديهم معا. شباب وشابات، أطفال وأمهات، آباء وأجداد، كل من جاء إلى الساحات يشارك فرحا بهذا الحلم الذي يرونه قريبا، وفي متناول اليد، متأكدين أنهم منتصرون، مقتنعون بأنهم منتصرون منذ أولى الخطوات، تحولوا واحدا واحدا، جسدا وجدارا اسمه العراق، ليهزموا الطغاة وعمليتهم السياسية الفاسدة التخريبية.
عندما تكون العزيمة والإرادة بمثل هذه القوة، لا يمكن للنصر وإنجاز هذه الثورة إلا أن يستجاب.
المصدر: العربي الجديد