نقص النمو الوطني

حازم نهار

تعبير “نقص النمو الوطني” من التعابير التي أجدها مطابقة لتوصيف الحال السورية، طوال السنوات الماضية. لكن، لا أقصد، بالطبع، من استخدام تعبير مفهوم “الوطنية” في السياق هذا، المعنى القيمي الشائع، أي المعنى المضاد لـ “العمالة” أو “الخيانة الوطنية”، بل المعنى الذي يشير إلى العناصر الجامعة أو الموحِّدة لدى أي جماعة بشرية؛ مثل وجود “رأي عام”، “هوية مشتركة”، “دولة سياسية عمومية”، أو أي خطوط عامة متفقٍ عليها لدى الجماعة البشرية المعنية تتعلق بدور بلدها في التاريخ والجغرافيا، وآماله وتطلعاته إلى المستقبل… إلخ.

بهذه المعاني، كانت سورية بلدًا ناقص النمو الوطني، لما تتكون ملامحه بعد، ولم ينتج ما يُعتد به على مستوى زيادة وزنه الوطني طوال نصف القرن الفائت، وقد جاءت فرص مهمة للسير خطوات في طريق بناء الوطنية السورية، لكنها قُطعت أو أُنهيت.

في السنة الأولى من الثورة كانت هناك إمكانية فعلًا، أو احتمال ما، لسير سورية والسوريين نحو الأمام وإعادة بناء الوطنية السورية، لكن هذا كانت له شروطه التي لم تتوافر، وعقباته التي لا يُستهان بها، وأهمها الطريقة التي استقبل فيها نظام الحكم سعيَ السوريين، بدءًا من آذار/ مارس 2011، لإعادة بناء بلدهم على أسس وطنية، راسخة وجديدة.

العنصر الرئيس المتحكِّم في أداء السوريين عمومًا، وفي المسار الذي وصلوا إليه اليوم، وفي طبيعة تعاطيهم مع الخارج، أو تعاطي الخارج معهم، هو عدم وجود أو تكون هوية وطنية خلال نصف القرن المنصرم، وهذا هو، فعلًا، ما راهن عليه نظام الحكم بصورة رئيسة لإفشال مساعيهم، قبل رهانه على احتمائه بروسيا وإيران وتدخلات الآخرين، وأكثر ما تجلّى غياب الوطنية السورية في عجزنا عن إنتاج نخبة سياسية ثقافية وطنية منظمة في سورية، تحمل على عاتقها جملة من المسؤوليات المركزية؛ تصدير خطاب سياسي وطني، الاتفاق على أساسيات العقد الاجتماعي الجديد، بناء علاقات خارجية على أساس المصلحة الوطنية السورية.

كان متوقعًا أن يؤدي نقص نمو الوطنية السورية، بالضرورة، إلى أمراض عديدة، تظهر بوضوح في مرحلة ما حول الولادة، أي في المرحلة التي تلي تعبيراتها الأولى، وهذه يمكن تحديد بدايتها بالاحتجاجات السلمية في آذار/ مارس 2011 التي كانت، في جوهرها، اعتراضًا على العقد الاجتماعي القائم، وما يرتبط به من نظام حكم، ومن نظم وقوانين موجودة، ومن علاقات سائدة، بين الدولة والمواطن، أو بين المواطنين أنفسهم، وغيرها.

يعني ذلك أنه عندما تقوم الثورات لتعلن بدايات جديدة، في بلدان لم “يكتمل” نموها الوطني، أو لديها نقص وزن تاريخي في الوطنية، أو لديها نقص مزمن في تشكّل الهوية الوطنية، بحكم الاستبداد الشمولي؛ فإنها ستصاب، حكمًا، بأمراض عديدة، متفاوتة الدرجة، وسيكون مصيرها التشظي والتوهان، سواء استطاعت إسقاط نظام الحكم أم لم تستطع، وسيستمر تشظيها إلى أمدٍ غير محدَّد، يتعلق من جهة أولى بقدرتها على إعادة إنتاج نخبة وطنية سياسية وثقافية جديدة ومنظمة، ومن جهة ثانية بوجود أحوال موضوعية، إقليمية ودولية، ملائمة لإعادة بناء شبكة المصالح الداخلية بين الكتل والجماعات المتنوعة. هذه الاحتمالات السيئة، وغيرها، موجودة وطبيعية ومتوقعة، وتشير بصورة رئيسة إلى تفسخ الدولة والمجتمع أصلًا؛ لأنه لا يُتوقع من الثورة في أي بلد لديه نقص في النمو الوطني أصلًا بفعل نظام الحكم الاستبدادي، أن تسير بسلاسة، بل ستكون الحصيلة هي التفسخ والتشظي، خصوصًا أن هذا النظام متغلغل في تفاصيل المجتمع أيضًا، لا الدولة فحسب.

كذلك، ستعيد الثورات، في مرحلة ما حول الولادة، في البلدان ناقصة النمو الوطني، طرح الأسئلة البديهية والأساسيات الخاصة بالاجتماع البشري وبناء الوطن والدولة على مائدة النقاش من جديد، وستستحضر الإشكالات الفكرية السياسية جميعها المرتبطة بإعادة البناء والتكوين؛ الهوية، الدين والإثنية، الدولة ونظام الحكم، العلاقات الخارجية… إلخ. وسيتداخل هذا النقاش ويتمفصل واقعيًا مع شبكة المصالح الداخلية والخارجية.

ما يعني بالضرورة أن نتيجة النقاش والحوار لن تكون محسومة، بصورة مؤكدة، في مثل هذه البلدان، لمصلحة الهوية الوطنية، بحكم تعدّد المدخلات والمؤثِّرين في مجريات الحوادث والحوار العام، بل قد يكون الانقسام والتشظي احتمالاتٍ ممكنة، خصوصًا إذا استمرّ غياب مركز سياسي وطني أو نخبة وطنية ثقافية سياسية متماسكة، تدرك مخاطر واحتمالات التذرر الجغرافي والبشري في بلدها.

وهذا يعني أن واقع التشظي والانقسام اليوم، ليس حصيلة الاستبداد الطويل ونظام الحكم القائم فحسب، فقد أسهمت قوى الواقع الراهن، بدرجة ما، في إنتاجه أو تعميقه، تلك التي حاولت التعامل مع المولود غير المكتمل، الوطنية السورية، بطريقة لا تتوافق مع أساسياته؛ تنكرت له ولم تعترف به، وأخذته إلى مسارات ازداد فيها تشوّهه واقترابه من حافة الموت لمصلحة ما هو أصغر أو أكبر، لكنه هو الآخر غير ناضج أو غير مكتمل، أو وهمي، أو فات أوانه، وغالبًا ما يكون ذلك على أساس إثني أو ديني أو طائفي.

تثبيت الوطنية السورية معركة مفتوحة، الحاسم فيها في المآل هو قدرتنا على إنتاج الدولة الوطنية الحديثة على أساس عقد اجتماعي جديد، وآنذاك يزداد احتمال تفتّحها وتبلورها، عبر التفاعل الاجتماعي الحر والمستمر، ما يجعلها أساسًا ديناميًا دائم التجديد.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. في الحقيقة والأصل في الموضوع ان الأمة العربية كانت حتى قبل سايكس بيكو تجتمع في الهوية الوطنية العربية قومياً .. ولما خذلها العالم في يناء الدولة العربية او نصفها المشرقي على الأقل انحصرت الوطنية في الأقاليم العربية السايكسبيكية تمارسها وهي تتطلع الى استرداد حلمها في وطنية داخل وطنها العربي الكبير ، وبمرور الوقت تشكلت ما يسمى بالإقليمية الجديدة التي بدأت تكون شخصيتها في إطار السلطات الإقليمية ، هذه السلطات وبحكم استبدادها نسفت كل القواسم الوطنية باعتمادها اُسلوب فرق تسد ، وأصبحت هذه الدول الإقليمية وتحت حكم المستبدين تشكل سداً ضد اية عودة او ارتباط حقيقي بالهوية الأصلية ( وطنية الوطن العربي ، وطنية الأمة العربية ) ، والأنكى من ذلك انها فعلت ذلك بقناع قومي عربي وحدوي او عروبي ، فأصبح لدينا ( وطنيات : سورية ، عراقية ، ليبية .. الخ في مواجهة حادة ومقنعة مع الوطنية العروبية ) كانت تلك الأخيرة ( العام ) الذي احتوى دون الغاء كل ( خاص ) من إثنيات مختلفة ، اعتماداً على مسلمة ان فكرة العروبة لا تفسر بنقاء عرق انما بالحياة على ارض ..
    وبناء على ما تقدم فإن ( مفهوم الوطنية السورية ) او غيرها تحتاج لاسترداد نبتها الأساسي ونموها السليم وانتمائها الى الأصل العام كأمة في وطن من المحيط الى الخليج ، شتته ظروف ذاتية ودولية وموضوعية ، وأدت الى قلب المفاهيم ليصبح الخاص عام والجزء كل ، فضاعت المعايير وتشابكت وتعقدت .

زر الذهاب إلى الأعلى