كورونيات كولونيالية

  د. عبد الناصر سكرية

رب ضارة نافعة. مثل عربي قديم. وقد نجد في كل ظاهرة سلبية شيئًا من الإيجابية. ينطبق هذا على موضوع الانتشار المريع لوباء الكورونا. وبغض النظر عن الأسباب والحيثيات في هذه الظاهرة العامة الملفتة؛ وعما إذا كانت أياد بشرية قد امتدت وتلاعبت في الفايروس ذاته او في تعميمه؛ أو أنه حصل جميعا دونما تدخل بشري عفوي أو متعمد؛ فمما لا شك فيه أن هذا الوباء قد وضع العالم أجمع في وضع مضطرب غير مسبوق، يحمل من المتغيرات ما يجعله محطة انتقالية في عمر البشرية سوف تجعل العالم بعده مختلفا عما قبله؛ أو هكذا ينبغي أن يكون.

بالنظر الموضوعي الهادئ بعيدا عن الخوف والهلع نستطيع أن نرصد بعض المتغيرات التي نحسبها جوهرية تمس الوضع الإنساني العام.

أولا – وحدة الوجود الإنساني:

بات واضحا جليا أن البشرية كلها بكل ما فيها من تناقضات واختلافات من كل نوع ، قومية او عرقية او عنصرية او سياسية او مصلحية ؛ ومن مستويات متفاوتة في كل شيء ؛ في المستوى المادي او الوظيفي او الاجتماعي او العلمي او الثقافي ؛ ومن نزعات إيمانية او إلحادية أو مادية وجودية او روحانية ربانية ؛ هذه البشرية جمعاء قد أصبحت أمام مصير واحد في مواجهة عدو واحد تتصدى له بالعلم وبالعلم فقط ، دونما أية حاجة لكل انواع الأسلحة المرعبة التي كدستها وأنفقت عليها آلاف المليارات دمرت بها بلدانا كثيرة وقتلت ملايين البشر وتحاصر ملايينا آخرين؛ جميع تلك الاسلحة الفتاكة ، فتك بها جميعا كائن من الطبيعة العفوية لا يراه أحد ؛ أخافها وارعب صانعيها وبائعيها وأفقدهم صوابهم وافقدها كل فعالية في مواجهته.

هكذا وفجأة تعطلت كل أسلحة البشر وتعطلت كل شرورهم وسقطت كل عنجهيتهم في أتون جحيم ذلك الكائن المتناهي في الصغر وبساطة التكوين إنما مع عظم القوة التدميرية.

هكذا أعاد الفايروس اصطفاف العالم كله في موقع واحد أمام مصير إنساني واحد لا خلاص فيه لواحد بمفرده؛ فإما خلاص عام شامل للجميع وإما هلاك عام أيضا.

اصطفاف غير مسبوق لم تقدر عليه قبلا كل النظريات والعقائد والمناهج والمصالح والحروب.

ثانيا: اعادة تجليس الهرم المقلوب:

كان النظام الرأسمالي العالمي بخصائصه الربوية الاحتكارية المادية ؛ قد استطاع قولبة البشر في سلك مفاهيمه النفعية التي تجعل من المنفعة المادية معيارا للعلاقات بين البشر ، كما أداة لتقييمهم وتحديد فعالية كل منهم وقيمته ودوره وصلاحيته .وهكذا أبعدت القيم الأخلاقية والإنسانية من كل تعامل بين الناس وصار مقدار ما يملك الفرد من مال ومصالح مادية ؛ هو المعيار لمدى أهميته وقيمته ” السوقية ” دونما أي اعتبار للوسيلة التي تم بها جمع ذلك المال ، اكانت حلالا أم حراما ؛ قانونية أم لا ؛ شرعية أم فاسدة ؛ نتيجة عمل شريف أو نتيجة نهب وسلب عمل الأخرين وطاقاتهم ، أكانت أفرادا أو جماعات أو شعوبا بكاملها أو اوطانا برمتها .

صار المال هو أساس ومعيار القيمة والفعالية الوجودية. مما جعل اصحاب الأموال هم أصحاب النفوذ والسلطان. فأصبحوا هم يصنعون السياسيين ويستخدمونهم. يملكون الإعلام ومراكز البحث والدراسات ووسائل الدعاية والتسويق؛ يصنعون الحروب ليبيعوا السلاح. وهكذا في كل مجالات الحياة. اشتروا نخبا مزيفة وفرضوها. إشتروا ” رجال دين ” واخترعوا لهم” أديانا ” مزيفة مشوهة وصنعوا لهم مؤسسات دينية مقتدرة ومؤسسات إعلامية متطورة بلغت حدا أن جعلت من بعض ازلامها ومستزلميها ” دعاة دينيين ” يبخرون لها ويبشرون لمناهجها الحياتية ويعيدون صياغة عقول البشر وفقا لما تقتضيه مصالحهم ومشاريعهم وإستراتيجياتهم في شتى الميادين.

هكذا استطاع ذلك النظام الربوي الاحتكاري المهيمن على العالم أن يقلب هرم الحياة ليجعل من عالم المال بكل ما فيه من فساد وجشع وتكالب؛ سيدا على البشر والبشرية طوال العقود المنصرمة. مستبعدا كل قيمة أخلاقية وإنسانية. حتى أن كلمة واحدة اختصرت وجسدت كل ذلك المنهج فصارت متداولة في كل موقف وحديث: ” بزنس “.

أما وباء الكورونا فقد أعاد تجليس ذلك الهرم المقلوب ليعيد الاعتبار إلى العلم والطب أي الى عالم الإنسان. سحب البساط من تحت أقدام أصحاب الأموال والأسلحة والتدمير بكل ما فيهم من فساد وبشاعة وجبروت وانحطاط؛ ليعيده إلى اصحابه الذين يستحقونه بجدارة.

أعاد الاعتبار لكتلة بشرية عظيمة تملك العقل الحر والعلم النافع والإنسانية الرحيمة. أعاد الى صدارة المشهد الإنساني الحياتي؛ العلماء والأطباء والممرضات والممرضين والمتطوعين وكل الإنسانيين الذين يتبرعون للإنسان ويضحون من أجله؛ وأعاد معهم تلك القيم الإنسانية الجميلة التي كان يفتقدها ذلك العالم…قيم الرحمة والتضحية والعطاء والتضامن والتعاون والإنسانية.. وازاح عن هذا المشهد أولئك الذين يجنون اموالهم وارباحهم من مرض الانسان وشقائه ومعاناته.. بل أبان قبحهم وهمجيتهم وعدوانيتهم وجشعهم وبشاعتهم أكثر فأكثر. وهكذا عاد هرم الحياة الإنسانية ليستقر على قاعدته بدلا من رأسه. ولكن إلى متى؟

ثالثا: خطورة الإعلام:

تزايد بيان خطورة الإعلام ومقدرته على توجيه عقول البشر وإهتماماتهم. حتى ليمكن القول إن الإعلام أصبح قائدا ميدانيا أساسيا للعالم بأسره يأخذه إلى حيث يريد يعلي شأن أية قضية تهمه وتخدم مصالحه وإن كانت صغيرة او ثانوية أو هامشية نسبيا. في حين يطمس قضايا انسانية عامة كبيرة وأحداثا عالمية هامة لا بل أساسية. وأكبر مثال على ذلك تعامل الإعلام العالمي مع قضية الشعب السوري ومهجريه ومعتقليه وقبله قضية شعب فلسطين وشعوب أخرى تتطلع الى التحرر والانعتاق من الظلم والتبعية والفساد…

ها هو الإعلام بالغ الاهتمام بوباء الكورونا وهو الذي يرسم للناس ماذا يفعلون وكيف يحتمون وما مصيرهم الذي يرتقبون. يدخل في الإعلام ما يطلق عليه وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح دورها مكملا للإعلام التلفزيوني والفضائي ومواكبا له بل أكثر امتدادا منه وأكثر التصاقا بالإنسان. ولهذه الأهمية الإعلامية وجهان: إيجابي وسلبي.

إيجابي بما يقوم به من تعميم المعلومات والاحداث ونشر الاحتياطات التي يتوصل اليها العلم والأطباء وتوجيه الناس الى ما يفيد وقايتهم وتجنيبهم المخاطر الوبائية والمرضية.

سلبي بما يختلط فيه من موضوعية ومصلحية وخلفيات دعائية تسويقية لغايات وأغراض فئوية مادية او سياسية خاصة لمن يملك الاعلام ومن يملك صناعة المادة الاعلامية. بحيث يتوه القارئ فلا يستطيع تمييز الصحيح من المفبرك؛ بسهولة.

فعلى مدار الساعة فإن آلاف المواد الإعلامية المعدة إعدادا جميلا ومدروسا ومؤثرا تضخ في وسائل الاعلام والتواصل العنكبوتي. معظمها غير معروف المعد والمنتج والموزع فضلا عن مصدر المعلومات التي يحتويها. الأمر الذي يزيد في التشوش والبلبلة ويزيد في الهلع المضخم او غير المبرر.

وبالعودة الى معرفة من يملك معظم الاعلام العالمي الفاعل والمؤثر تتضح كثير من الخلفيات غير العلمية وغير الموضوعية وتحديدا تلك الموجهة الى الانسان العربي.

الأمر الذي يستدعي من الجميع الانتباه والحذر والفرز بين الموضوعي والكاذب وعدم تصديق او ترويج او تداول كل ما ينشر لمجرد انه موجود في الإعلام المتداول.

مرة أخرى عودة إلى النظام الرأسمالي الربوي الاحتكاري الذي يملك معظم الإعلام العالمي ومصادر أخباره ومعلوماته ومواده؛ ندرك أن كما كبيرا مما ينشر ليس موضوعيا إنما يخدم مصالح مالكيه وموجهيه. وفيما ينشر حول الكورونا جزء من ذلك يستوجب الحذر والتمحيص. غالبا ما يدور حول الوباء او تفسيره بخلفيات ” دينية ” او تحليلية مغايرة للعلم والوقائع..

رابعا: العالم بعد الكورونا:

هل سيتغير شيء جوهري في العالم والنظام الذي يحكمه؟ هل يمكن لقوى الرأسمالية الاحتكارية الربوية أن تستوعب دروسا من الأزمة الراهنة فتترك مجالا لتغيير مهم يخفف من وطأة النهج المادي الجشع ويفسح المجال لعودة الاعتبار إلى القيم الإنسانية العامة؟ أم انها لا تريد ولا تستطيع وستحارب أية محاولة للتغيير على هذا المستوى مع الإصرار على فرض هيمنتها واستثمارها للأزمة لتحقيق مزيد من الربح والكبح والهيمنة؟؟

ما هي التغييرات المرتقبة ومن المؤهل، إنسانيا واجتماعيا وعالميا، لإحداثها وحمايتها وكيف؟؟

هل يمكن للنظام العربي الراهن أن يلعب دورًا مستقبليًا في هذا المضمار؟؟

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. اطلب من القيادة الفلسطينيه ان تتقدم بعمل خطاب رسمي موجة الى جميع زعماء العالم نطالب فئة
    الإفراج عن جميع الأسرى فورًا دون قيد او شرط
    مطالبة الاحتلال فورًا بالانسحاب من الأراضي الفلسطينة عام ١٩٦٧
    ازالة المستوطنات من جميع الأراضي الفلسطينية او
    تعويضهم عن طريق الدول العشرين

    عودة جميع الاجئين الفلسطينين الى بلدانهم الذين هجرو منها ( جميع اللاجئين )
    القدس عاصمة دولة فلسطين
    هاد المطلب الوطني والمفروض ان يطبق
    بالاضافة الى باقي الامور التي تضمن حقوقنا الكامله
    مثل ان يقوم مجلس الأمن بفرض هاد الحل على الكيان الغاصب مع ضخ مبلغ لا يقل عن مئة مليار دولار على فترة عشر سنوات للزولة الفلسطينية
    هاد ليس حلم وإنما حق من حقوق الشعب الفلسطيني
    على العالم ان يشعر بإنسانية وعدالة قضيتنا
    وبدون تطبيق العدالة بين الشعوب ربنا قادر على ان يبعث كارونا ١ و ٢ و ٣
    لتكن عبرة لمن لا يعتبر
    تحياتي وشكري لكل من يتفهم هاد المطلب

  2. مقال في منتهى الاهميه ويصلح لكي يبني عليه لتشكيل جبهه عالميه للقضاء على كل أشكال الامبريالبه ويجب ترسيخ مفهوم َما بعد كورونا ليس مثل ما قبل كورونا

زر الذهاب إلى الأعلى